الإنسان ابن بيئته، والبيئة لا تتحكم فيها الظروف المناخية والتحولات الطبيعية بقدر ما تؤثر فيها الاتجاهات الفكرية والسلوكية، التي تشكل الإنسان وتبني أفكاره واتجاهاته فيما يتعلق بالأمور التي يعايشها، كالولاء للقبيلة أو التعاطف مع النوع، أو تلك المتعلقة بالماورائيات أو الميتافيزيقيا.
ولقد ابتُليت الأمة العربية والإسلامية بداء المؤامراتية الذي يبرر قول وفعل القبيلة أو الحكومة أو الخليفة، استناداً إلى خطر مداهم، قد لا يكون حقيقياً، إنما ليدعم وجهة نظر الفاعل، ويحقق رأياً عاماً تجاهه.
ومنذ الكتابات الأولى لحكايا التاريخ الإسلامي والعربي، بدأ التدليس سواء في سير القادة أو الخلفاء أو الأدباء وصولاً إلى مواقف آل البيت، والحكومات التي ظهرت بعد انهيار الدولة العباسية في المشرق والأموية في الأندلس. وساهمت نخبة من الذين وضعوا مناهج التاريخ واللغة والتربية الدينية - في المدارس العربية- مساهمة فعّالة في تعميق نعرة المؤامراتية، وحجب الحقائق عن الأجيال التي درست تلك المواد بعيون لا ترى، حيث إن الطالب لم يكن يُسمح له بأن يبدي رأياً -مهما كان- لأن المدرس هو الفاهم الأفهم، وأن الوزارة هي المرجعية الأساسية للحقيقة.
ولن نتحدث هنا عما جرى في التاريخ القديم من أحداث تؤكد الاتجاه المؤامراتي الذي نعنيه، لكننا سنتحدث عن الأحداث القريبة منا، وبعضنا قد شهدها منذ فترة.
فلقد ظلت إسرائيل والولايات المتحدة المشجب الأوحد والأكبر الذي دأبت العديد من الحكومات العربية،على تعليق خيباتها عليه. فالفساد الإداري في حكم الخمسينيات كان بسبب حصار أميركي وضغط إسرائيلي، والهزائم العسكرية كانت بسبب أميركا لا بسبب المؤامرات داخل الجيوش العربية، أو سوء تخطيطها، وتراجع الصناعة العربية كان بسبب دعم أميركا لإسرائيل، لا بسبب رداءة الصناعة العربية، وجودة الصناعة اليابانية. واحتلال دولة عربية لأختها يصب في خانة الأمن القومي، لا بسبب الجشع ومحاولات إضعاف هذه الدولة وتفريغها من محتواها الاقتصادي والاجتماعي وفرض الهيمنة السياسية عليها. واقتطاع أجزاء من بلدان عربية شقيقة، كانوا يبررونه بالحق التاريخي، وأن بريطانيا عندما رحلت من الخليج -مثلاً- لم تحدد الحدود كي تبقي التوتر قائماً في المنطقة، وهذا ما أشاع توتراً لا زال قائماً! بل وفرضت الدولة القوية عضلاتها لابتلاع ما تراه مناسباً من أراضي الغير!
وهكذا صحونا - نحن الذين تجاوزنا الخمسين- على حقيقة أننا خُدعنا بمناهجنا وتوجيهات مدرسينا، الذين كانوا حريصين على تنفيذ مخططات - قد تكون غير مكتوبة- بقصد سمل عيوننا عن رؤية الحدث الآخر، أو الصورة الأخرى التي حجبوها في الكتب المدرسية أو الدروس اليومية.
وحين صحونا، إثر الانفتاح المعلوماتي، وزوال دهاقنة الرقابة على الكتب، واندحار القوانين الرقابية أمام الإنترنت، وجدنا كم نحن خُدعنا، وكم تم تشويه عقولنا إلى درجة أننا نخرج إلى الشوارع "نفتدي" بعض المهزومين ونعلن العداء لأميركا وبريطانيا، دون أن يحق لنا - أو نلتفت- لكي نصحح أخطاء المسيرة أو نناقش الحكام في صيرورة الأحداث وتقلباتها. ولأنهم أدخلونا دائرة الخوف والشك، رضينا أن تتدخل الحكومات حتى في أدق تفاصيل حياتنا، ومنها الزواج، أو الجنسية أو اختيار المادة التي نراها قريبة من توجهاتنا ورغباتنا. بل وأصبح من حق الدولة أن تحدد الأماكن والبلدان التي يجب أن نذهب إليها، وتلك التي لا يجب أن نزورها!
ووجدنا أن الإعلام الذي - كان مهزوماً- ظل يمارس علينا مؤامرة أو مسرحية الانتصار، حتى في أحلك الحالات، وليس آخرها ما حصل قبل أسبوعين من إحدى الفضائيات العربية.
ووجدنا أن أهل "العقد والحل" يمكن في لحظة أن يغيروا مواقفهم، ويعلنوا تأييدهم لهذا النظام أو ذاك، ويرفعوا "بركاتهم" عن هذا النظام أو ذاك طبقاً للمصالح، وشرعية القوة التي يحتكم إليها النظام، دون النظر إلى الشرعية، أو التفاضلية الأخلاقية والاجتماعية التي يقوم عليها نظام المجتمع.
ووجدنا - اليوم- وبعد أن تشوهت صورة الإسلام إلى درجة كبيرة، إثر تورط إسلاميين أو مسلمين في أحداث 11 سبتمبر وغيرها، أن أي يد تحاول فتح ملف التاريخ (عربياً كان أم إسلامياً) يجب أن تُقطع! وأن أي لسان يحاول أن ينقل ما حفلت به الكتب والمُتون المحظورة في عهود الرقابة يجب أن يُجزّ من (لغاليغه) حتى لا تحدث فتنة، بل ويستسهل البعض إطلاق مسميات قد لا تكون ذات دلالة حقيقية مثل (العلمانيين)، ووصل الأمر ببعض رجال الدين إلى "تكفير" أي شخص يمكن أن يأتي بخبر، لم يسمح به الفقهاء القدماء، ولم تُجزه الدول والممالك السابقة. ويعاقب بالجرم ذاته كل من يحاول إبداء رأي في حادثة دينية أو اجتماعية تخالف رأي "قوة الدولة" المتمثل في المؤسسة الدينية، ولو كانت هذه الحادثة قد حصلت قبل خمسة عشر قرناً.
ألسنا - نحن المُستضعفين من العرب- بحاجة إلى وعي من نوع جديد حتى لا نُبرر احتلال دولة عربية لشقيقتها بأنه للمصلحة العليا للأمة العربية؟ ألسن