قبل أيام قليلة بدأ البولنديون وجميع ديمقراطيي أوروبا والعالم، احتفالاتهم بذكرى مرور ربع قرن على انطلاق التحركات العمالية الشهيرة في مدينة غدانسك، والتحركات هذه هي التي انتهت، في آخر الأمر، إلى النتيجة الملحمية ممثلة بتقويض النظام الشيوعي البولندي، ومن ثم تقويض الكتلة السوفيتية التي انتقل معظم بلدانها إلى النظام الديمقراطي.
وأمام المناسبة تلك، لا يملك المرء، لا سيما متى كان عربياً، إلا أن يقارن الحدث البولندي بالحدث العراقي الراهن والمأساوي حقاً. ففي بغداد، على عكس وارسو، حصل تدخل عسكري خارجي لا تحركاً شعبياً من الداخل. لكن العنصر الأهم يكمن في مكان آخر: فقد أظهر البولنديون، وهم بنسبة 95 في المئة على المذهب المسيحي الكاثوليكي، درجة من الوحدة تعادل درجة الانقسام والتفتت التي أبداها ويبديها العراقيون ما بين عرب وأكراد وسنّة وشيعة. ولهذا تمكن الأولون من استنطاق تاريخ مشترك ورموز جامعة، زمنية ودينية، وذاك على العكس من الانشطار في التواريخ والرموز مما يظهر اليوم في العراق. وفي النهاية، انتصرت الديمقراطية في بولندا إلا أن حمام الدم هو، لشديد الأسف والألم، ما سطع، ولا يزال يسطع، في بلاد الرافدين.
ولا بأس هنا، باستعادة عامة وسريعة لتطورات ذاك الحدث الاستثنائي بما يمنح الأحكام العامة أمثلتها التجريبية: ففي أحد أيام عام 1980 أعلن عمال ميناء مدينة غدانسك الساحلية عن إضراب شامل. وهذا مما يُعدّ أحد ممنوعات النظام الشيوعي حيث يُفترض، أقله نظرياً، أن الحكم لـ"الطبقة العاملة"! لكن لم تمر إلا أيام قليلة حتى قامت الشرطة باغتيال بعض الناشطين في الإضراب في شوارع عامة، فتحصّن العمال المضربون في الميناء لا يغادرونه، وشرعوا من هناك، يرسلون المندوبين إلى سائر قطاعات ومناطق الشعب البولندي طالبين دعمها. وفي هذه الغضون برز للعمال قائد شجاع معروف بعداء مزمن للنظام، وبوَرَع كاثوليكي متطرف، هو عامل الكهرباء ليخ فاوينسا.
ولئن سارع الإعلام العالمي إلى تحويل فاوينسا نجماً كونياً وإيقونة للغربيين، كذلك سارع باقي البولنديين إلى نصرة عمالهم بتظاهرات وإضرابات عمّت البلد كله. وإذ اختار العمال لحركتهم اسماً بعيد الدلالة، ظلوا أوفياء له حتى لحظة انتصارهم، وهو "نقابة التضامن"، فإنهم رفضوا عروضاً تتدفق عليهم من طرف الحكومة. فقد قرر الحزب الشيوعي الحاكم، مع اتساع موجات الاحتجاج، إغراء العمال المضربين برشوة مالية ما لبثوا أن رفضوها، مشترطين أن يُعامَل رفاقهم المتضامنون معهم في سائر أنحاء بولندا بالمثل. وفعلاً حصلت المعجزة وهي أن يقدم نظام شيوعي، تحت قوة الضغط الشعبي، على رفع الأجور لجميع عمال القطاع العام (الذي يشغّل غالبية العمال الساحقة).
هذا الانتصار لم يفض إلى ضمور الحركة، أو ركودها، بل زاد في تأجيجها دافعاً بها إلى طلب المزيد من المكاسب، فالاعتراض انتشر فعلاً منتقلاً من المعامل إلى المكاتب والحقول والمدارس، وتحول إلى عاصفة تهدد بخلخلة نظام يدعي تمثيل العمال وحقوقهم. كذلك غدت النوادي والصحف، بما فيها تلك الأكثر رسمية، منتديات ومنابر لنقاشات مفتوحة. وفيما راح المجتمع المدني البولندي يُسمع صوته، والنظام تتداعى شرعيته، اتضحت ملامح التحالف العريض بين العمال والمثقفين والكنيسة. وإذا بـ"التضامن" تضم عشرة ملايين هم قرابة ثلث جميع البولنديين، وتتحول بمثابة حزب للشعب كله. كهذا أجبِر الحكم، الخائف من حلف عريض كهذا، على القبول بمبدأ التفاوض.
بيد أن النظام، ومن ورائه الاتحاد السوفييتي، كانا يعدّان العدة لعلاج من نوع آخر. وبالفعل فبعد 16 شهراً، أي في ديسمبر 1981 تحديداً، أعلن قائد الجيش الجنرال جاروزلسكي حالة الطوارئ واعتُقل فاوينسا وباقي قادة "التضامن"، بمن فيهم العديد من الكتّاب والمثقفين والمدرسين. وقد زعم جاروزلسكي في وقت لاحق أنه اختار هذا التصرف لقطع الطريق على أي تدخل عسكري يقوم به السوفييت والحلفاء الآخرون في "حلف وارسو"، يكون على غرار ما حصل في تشيكوسلوفاكيا عام 1968. وهذا، في ما لو حدث، كان كافياً لتهديد السلام الأوروبي برمته. وقد يكون جاروزلسكي صادقاً في روايته، وقد لا يكون. لكن المعروف أنه لم يستقبل بالترحاب إصلاحات ميخائيل غورباتشوف الذي وصل في 1985 إلى سدة الكرملين. فالجنرال البولندي تصرف عند ذاك مثلما تصرف القادة الشيوعيون الآخرون في المعسكر الآفل، معتمداً سياسة الحذر والتردد.
لكن النهج الجديد في موسكو نبّه الرفاق البولنديين إلى أن عليهم تقديم تنازلات ما منعاً لاصطدامهم بشعبهم في مواجهة لن يدعمهم فيها أحد. هكذا أقدم الشيوعيون في 1989 على إطلاق سراح آخر من تبقى من سجناء "التضامن"، فاتحين باب العودة إلى المفاوضات. وفي يونيو أجريت انتخابات فاز فيها مرشحو "التضامن"، فلم تطل أواخر 1990 حتى كان فاوينسا رئيس جمهورية بولندا الجديدة.
صحيح أن "التضامن" حظيت بدعم واسع في الغرب امتد من المثقفين والنقابات العمالية إلى الحكومات، خصوصاً الإدارة الأمير