تضغط الإدارة الأميركية على العراقيين لإقرار مشروع دستور بلادهم الجديد، وكأنه ليس ثمة فرصة أخرى أو خيار آخر أمامهم سوى الصيغة المقترحة، والتي كما بدا واضحاً للجميع، لا تحظى بموافقة كل مكونات وشرائح المجتمع العراقي. وليست بريئة هذه الإثارة المبرمجة المستمرة من الأساس لحملة التحريض المذهبي التي انطلقت منذ بداية الاحتلال الأميركي للعراق، وتفاقمت خلال الفترة الأخيرة.
شئنا أم أبينا ثمة واقع قائم في العراق لا يمكن تجاوزه؛ فالمشكلة الكردية قائمة وممتدة من العراق إلى إيران إلى تركيا وإلى سوريا. وهي في ظل "الاستمرار" في القمع الذي كان سائداً في العراق كانت موضع اهتمام كل المراقبين والمتابعين، وشكلت نقطة تقاطع بين الدول المذكورة، بمعنى الإجماع في ما بينها على رفض إقامة دولة كردية. هذا الأمر، بحد ذاته، شكل حالة رفض كبيرة عند الأكراد، إذ أن ثمة شعباً يُقهر ويُعذب ويُحاصر ويُضطهد وتُهمل مطالبه وقضاياه ويعاني وتشوه صورته على مدى سنوات طويلة ويقدم تضحيات كبيرة. ومن الطبيعي أن يتحين أي فرصة لتحسين شروطه وأوضاعه. وما فعله نظام صدام حسين معهم من ظلم وقهر ومجازر جماعية مستخدماً أسلحة ممنوعة ومحرمة، ودعم معظم العرب له، وترك الأكراد عرضة لسياساته وأساليبه، جعلهم يشعرون بخيبة كبيرة ويتصرفون على أساس أن ليس ثمة سند لهم سوى أنفسهم. وبالتالي عندما بدأت التحضيرات للحرب ضد صدام حسين ونظامه كانوا الأكثر وضوحاً في الاندفاع نحو تبني الحرب والمشاركة فيها لأنها الفرصة الوحيدة للتخلص من طاغية، ولأن من يقوم بها يبحث عن مصالحه ويجد بعضاً منها معهم. هكذا كانت المناطق الكردية مؤيدة للحرب، موحدة في موقعها، شرسة في مواجهة النظام، وكان الأكراد شركاء أساسيين في كل القرارات التي اتخذت أثناء الحرب ثم بعدها حتى اعتقال صدام. ومنذ ذلك الوقت لجأوا إلى تنظيم مناطقهم وأصروا على ضمان حقوقهم، كل حقوقهم، وكل مصالحهم، لتأكيد شراكتهم الكاملة في القرار السياسي على مستوى رئاسة الجمهورية، ونيابة الرئاسة والمراكز الأساسية في الدولة في قطاعاتها المختلفة. وفي مرحلة معينة ظهر خلاف بينهم وبين الأميركيين وصمدوا وأصروا على مواقفهم. وتبدو مناطقهم اليوم، الأكثر تنظيماً واستقلالية إن صح التعبير. وأيدوا مشاريع الفيدرالية لأنهم في الأساس يتطلعون إلى دولة مستقلة على "أرضهم"، واعتبر بعضهم بشكل علني أنهم ليسوا عرباً، وقد جاء ذلك بعد اتهامات لعدد من الفصائل الكردية بتطهير مناطقهم من الوجود العربي ومن التركمان! وهذا مناخ يساعد بطبيعته على تكريس حالة التقسيم أو اللامركزية السياسية والإدارية التي يمكن أن تذهب إليها الأوضاع في العراق، خصوصاً وأن ثمة توجهاً لدى الأميركيين، والإسرائيليين الفاعلين في مراكز القرار الأميركي، بدعم هذه الفكرة وإن كانت لا تصل إلى حدود إقامة دولة كردية الآن، وأقول الآن لظروف وأسباب موضوعية.
الشيعة في المقابل، يعتبرون أنهم ظلموا وحرموا وقهروا في العراق على يد النظام " السني" تاريخياً، وخصوصاً في مرحلة صدام حسين. وبالتالي ونظراً لكونهم يشكلون الأكثرية بين أبناء العراق، فإن الفرصة ملائمة اليوم، وبعد التخلص من النظام السابق، لتكريس حقوقهم وتثبيت مرجعيتهم في القرار السياسي في البلاد، والتعويض عما فات. وتساعدهم الظروف في المنطقة بدءاً من دور إيران الكبير وحضورها الفاعل، وصولاً إلى الوضع المهتز في المنطقة، وإلى صعوبة تجاوز دورهم وقرارهم موضوعياً في العراق، واندفع كثيرون منهم في مرحلة صياغة الدستور إلى حد التفكير بصيغ تكرس ما يريدون وتذهب إلى الانتقام من كل الوضع السابق، فأصبحنا أمام حالات مشابهة لما كان يفكر به بعض اللبنانيين عند البحث في الطائف عن صيغة للخروج من الحرب. كل فريق يريد الانتقام من الآخر كان يقدم الصيغة التي تخدم هذا الهدف. اليوم للانتقام من صدام يشعر السنة بأنهم يدفعون جميعاً الثمن، وأن الاحتكام إلى منطق الأكثرية العددية هو الأساس، وأن المناطق الكردية معززة وكذلك المناطق الشيعية، أما المناطق السنية فجاء دورها لتُحرم الآن من قبل الآخرين الذين كانوا محرومين من قبل صدام حسين ونظامه، علماً بأنه ليس صحيحاً أن كل المناطق السُنية كانت معززة أيام صدام. ليس ثمة ديكتاتور أو نظام قمعي يعزز حضور الناس في أي مكان، كل الناس، هذه أنظمة تستخدم الناس، تستغلهم، تستعديهم، تعاقبهم. لكن ظروف العراق والمنطقة هي ظروف تنمو فيها المشاعر المذهبية والطائفية للأسف. وثمة ما يعززها في وقائع الحياة السياسية العراقية منذ أيام صدام حسين خصوصاً. فكيف إذا عدنا إلى الحرب اللبنانية، وبعدها الحرب العراقية– الإيرانية، وما تعيشه بعض دول الخليج من تحركات تنذر بخلافات سنية- شيعية، والحديث اليوم عن فتنة سنية- شيعية في لبنان يزداد؟ ولاكتمال المشهد المأساوي في العراق، لا تسمع من يتحدث عن حقوق المسيحيين وغيرهم من المكونات ولو كانت أقليات ضمن الأقليات!
في ظل هذا الواقع والسعي الغربي والأميركي خصوصاً وال