يردد العديد من المتابعين، الرأي الشائع، بأن فوز الرئيس المصري حسني مبارك بالانتخابات أمر محسوم، لأن المؤسسة العسكرية المصرية لن ترضى بغيره، وهذه المؤسسة، ومنذ ثورة يوليو، هي بمثابة صمام أمان النظام الجمهوري في أرض الكنانة وحزبه الحاكم الرئيسي والسند الأول للنظام. ويضيف هؤلاء أنه ومنذ 1952 لم يحكم مصر إلا ابن المؤسسة العسكرية وأن دورها، وخاصة في ظل التحدي الأصولي، مرشح للاستمرار. ولعل الأحداث السياسية تؤيد مثل هذه الملاحظات، فعملية التنمية السياسية في مصر والعديد من بلدان المنطقة جاءت مبتورة وناقصة. وفي ظل تأسيس الأحزاب الرسمية التي لا تمتلك أسساً مؤسسية أو قواعد جماهيرية ونخبوية حقيقية، بقي العسكر المؤسسة السياسية الرئيسية، إن لم تكن الوحيدة، التي تمتلك الثقل السياسي المطلوب إضافة إلى التنظيم والتراتبية والموارد، لتلعب الدور المؤثر على الساحة الوطنية.
ودور العسكر في منطقة الشرق الأوسط عميق ولا ينحصر فقط في العالم العربي، بل يمتد إلى باكستان وتركيا وإسرائيل ولو بصور مختلفة. وتقييم هذا الدور يتباين، فالبعض يرى جانبه الإيجابي من حيث إنه داعم للاستقرار في منطقة شرسة ومتقلبة، والبعض الآخر يرى فيه سلبياته من حيث قمعه للحريات ورفضه للتحديث السياسي الضروري والمتمثل في الخيار الديمقراطي، والرأي السائد أن اتجاهات المؤسسة العسكرية غير قابلة للتغيير ومسايرة التطورات السياسية المتحركة في عالمنا هذا.
نعم، يختلف الدور السياسي للجيش من بلد إلى آخر، ولكنه يبقى مؤثراً ورئيسياً، ففي إسرائيل يلعب الجنرالات دوراً كبيراً في الحياة السياسية بمجرد مغادرتهم للمؤسسة العسكرية، مجنبين الدولة العبرية الاتهام بتحكم العسكر في الحياة السياسية، مع أن هؤلاء الضباط أبناء هذه المؤسسة يحملون فكرها وأجندتها في المساحات العامة التي يشغلونها. وفي باكستان نجد أن الجيش تعود التدخل المتكرر في العملية السياسية، وفي أجواء المنافسة والمواجهة مع الهند يحلو لهؤلاء الضباط، وصف دورهم بالحرس البراتوري للدولة، (أي الحرس المعني بحماية النظام). ولابد من أن نشير إلى أن الجنرالات وفي العديد من الحالات استغلوا الأجواء السياسية العامة لدعم سيطرتهم وتحكمهم كما فعل ضياء الحق في صبغ الوضع السياسي الباكستاني صبغة أصولية ما زالت تعاني منها.
وفي العديد من الحالات الأخرى نجد أن النظام يسعى لكسر شوكة المؤسسة العسكرية وانتماءاتها الأيديولوجية، لضمان استمراره وبقائه. ففي الحالة الإيرانية نجح النظام الجمهوري في تصفية قيادات الجيش الإمبراطوري السابق و"إعادة تأهيله" ليتناسب فكره مع متطلبات جديدة، وتم ذلك من خلال تصفية القيادات السابقة وخلق جيش موازٍ سمي بالحرس الثوري. ومع أن هذه الخطوات أثرت سلباً على الأداء العسكري الإيراني في الحرب مع العراق، إلا أن الاعتبارات السياسية طغت على مقاييس الأداء العسكري. وحاول الأميركيون أن يكرروا التجربة من خلال حل الجيش العراقي السابق واستبداله بجيش يحمل فكراً وأيديولوجية مختلفة، ولكن، وكما نرى اليوم جاءت النتائج كوارثية.
ونتساءل، إن كان توجه المؤسسة العسكرية توجهاً جامداً منقوشاً في الحجر ولا يتأثر بالتطورات السياسية المحيطة كما يحب أن يصوره البعض، ومن خلال الاستشهاد بالحالة التركية نجد أن مثل هذا التصور غير دقيق، فالرأي السائد يقول إن المؤسسة العسكرية التركية هي الحارس الأول للإرث العلماني الأتاتوركي، وإن المؤسسة تدخلت وستتدخل مراراً لحماية هذا الإرث. ومثل هذا الرأي صحيح في جوانب عديدة منه، ولكن متابعة التاريخ التركي الحديث تبين أنه دور تبلور وتطور ولم يتأسس نتيجة لتصور معين أو خطط وضعت مسبقاً. ففي 1950 ومع خسارة خليفة أتاتورك عصمت إينونو لأول انتخابات حرة في الجمهورية التركية، حدثه العديد من كبار الضباط عن نيتهم بالتدخل ضد الفائزين، الرئيس الجديد جلال بيار ورئيس الوزراء ذو الشخصية الكارزمية عدنان مندريس، ومنعهم إينونو من التدخل مؤسساً لتجربة ديمقراطية حديثة. واستمر حزب مندريس في الفوز في ثلاثة انتخابات متتالية شملت عقد الخمسينيات بأكمله، ونتيجة استئثار مندريس بالسلطة في نهاية عهده، تكون ضده تحالف مركب شمل العديد من المثقفين وفئات مختلفة من المجتمع التركي، مما حفز العسكر على التدخل من خلال انقلاب الجنرال جمال غورسيل، مع العلم بأن العديد من الرتب الكبيرة لم تشارك ووقفت مع النظام القائم، وكعادة العديد من الانقلابات العسكرية لم تكن هناك أجندة واضحة وخطة عمل تتجاوز الإطاحة بحكم الحزب الديمقراطي. ومثل هذا البرنامج الذي حدد دور العسكر كحامٍ للعلمانية التركية تم وضعه من قبل خمسة من أساتذة كلية القانون بجامعة اسطنبول، حيث عرفوا دور المؤسسة العسكرية كحماة للعلمانية التركية ووضعوا دستور الجمهورية الثانية، ونتيجة لهذا الفصل أصبح التدخل العسكري في مفاصل التطور السياسي سمة للحياة السياسية التركية ولو إلى حين.
والاستنتاج أن المؤسسة العسكرية جزء لا يتجزأ من المؤسسات