ثمانية ملايين إنسان يموتون سنوياً بسبب الفقر, أي بمعدل عشرين ألفاً يومياً. يحدث هذا في عالم اليوم الذي وصل إلى مستويات غير مسبوقة في تحقيق الرفاه الاقتصادي لأجزاء من البشرية, ومستويات غير مسبوقة من العلم والتكنولوجيا الذي أمل كثير من فلاسفة القرن التاسع عشر والعشرين أن يسهم في تحقيق المساواة والعدالة بين البشر. ويعيش أكثر من مليار إنسان تحت خط الفقر المدقع, أي بما قيمته أقل من دولار واحد في اليوم. وللتخلص من هذا الفقر لا يحتاج العالم أكثر من 70 إلى 80 مليار دولار سنوياً ولمدة عدة سنوات, أي بما يعادل ثلث إلى نصف كلفة الحرب على العراق, وما يعادل أقل من خمس الحرب على فيتنام. الفقر العالمي هو وصمة العار الكبرى في جبين الإنسانية وتقدمها واقتصادها وقبل كل شيء في جبين الدول الكبرى التي تبلغ نفقاتها على التسلح وحده أضعاف أضعاف ما تحتاجه قارة معدمة مثل أفريقيا كيف تتجاوز الكارثة التاريخية الممتدة التي تعيش فيها. و لكن أياً من الأطروحات التي قدمها فلاسفة ومصلحون وعلماء للتخلص من الفقر العالمي وعلى مدار قرون كثيرة وعديدة, لم ينجح في تقليص الفجوة الدائمة بين الأغنياء والفقراء على امتداد تاريخ البشرية.
حديثاً جداً وفي سياق تلك الأطروحات فإن جيفري ساكس الاقتصادي الأميركي الشهير, وربما الأهم والأشهر في دوائر الاقتصاد المختصة بتنمية العالم النامي والفقير, يقدم أطروحة جديدة, ثورية وطموحة إزاء الفقر في العالم, يقول فيها إنه بمقدور دول العالم أن تنهي معضلة الفقر العالمي خلال عشرين سنة, وبحيث تحل سنة 2025 وقد تحقق ذلك الهدف. ويتطلب ذلك جهوداً غير مستحيلة لكن يجب أن تكون جماعية وشجاعة وفيها قدر من الحرص على مستقبل الكرة الأرضية. الأطروحة لا تنطلق من أرضية "الصدقة وعمل الخير" وحسب, بل تستند إلى أن مصلحة سكان الأرض, وبالدرجة الأولى المجتمعات الغنية والقوية, تكمن في القضاء على الفقر الذي إن لم يُقضَ عليه سيظل موطنا لكل الأمراض المعولمة التي لن تنجو منها مجتمعات العالم الصناعي الهانئة بمستويات معيشة رغيدة.
ينفي ساكس عن رؤيته التفصيلية لإنهاء الفقر سمة الطوباوية والمثالية, وهو في سياق دفاعه ذلك يعود إلى سيرة الاقتصادي الإنجليزي الشهير جون مينراند كينز المنظَّر الكبير لدولة الرفاه الغربية. يقول ساكس إن كينز عندما تأمل في الأوضاع الاقتصادية المتردية لبريطانيا إبان الكساد الكبير في عقد الثلاثينيات من القرن العشرين, وكتب كتابه الأشهر "الفرص الاقتصادية لأحفادنا", كان يكتب برؤية واضحة رغم سوداوية وشؤم الظروف المحيطة به. وعندما صاغ نظرياته التي أنقذت الاقتصاد البريطاني ثم لاحقاً الاقتصادات الأوروبية برمتها وأسست للانتعاش الاقتصادي الكبير وأنهت الفقر, كانت بوصلته المستقبل وامتلاك القدرة على التغيير. ساكس يحذو حذوه ويقول إن القضاء على الفقر في الدول الأكثر فقراً في العالم هو في مقدورنا ويمكن إنجازه ليس في حياة أحفادنا, بل في حياتنا نحن. ويقول إن تراكم الخبرة العلمية والكشوف العلمية المتواصلة وانتهاء الصراع المدمر بين الشيوعية والرأسمالية كلك ذلك يتيح فرصة حقيقية يجب انتهازها للتخلص من الفقر العالمي. ولربما سنحكم على كتاب ساكس بعد عشرين سنة في ظل الوقائع التي ستثبت عملية وواقعية طرحه أم طوباويته. بقي أن نقول إن ساكس يكاد لا يقل تأثيراً عن كينز لناحية نظرياته وأطروحاته على مستوى العالم, فهو أكاديمي ومنظر معروف, رئس معهد الكرة الأرضية في جامعة كولومبيا, وأسس أو شارك في تأسيس مؤسسات عالمية مهمة معنية بمحاربة الفقر في العالم, وشارك في إنجاح تجارب اقتصادية في عدد من الدول, كما أنه يشغل حالياً موقع المستشار للأمين العالم للأمم المتحدة كوفي عنان.
ساكس يقترح أن تدفع دول العالم الغنية ما نسبته 0,07% من الناتج القومي لها بشكل سنوي ويخصص لأنبل حرب قد تقودها الإنسانية, وهي الحرب ضد الفقر. وهذه النسبة الضئيلة جداً لن تؤثر على مستويات المعيشة في تلك الدول, ولا على تصاعد النمو الإقتصادي فيها. لكنها في ذات الوقت توفر أزيد من مئة مليار دولار سنوياً يمكنها أن تقلب وجه العالم. لكن لتنفيذ مثل هذه الفكرة يدرك ساكس أن هناك اشتراطات ليست سهلة أهمها تعزيز دور الأمم المتحدة, وكبح جماح النزعة الإمبريالية الأميركية التي سعرها المحافظون الجدد, وإعادة نمط العلاقات الأميركية مع العالم وفق مبدأ التوافق والتعاون وليس الانفرادية, إضافة إلى تصعيد قضية الفقر العالمي لتحتل موقع الصدارة على الأجندة الدولية.
ساكس يكتب بروحية عصر الاستنارة, بتفاؤل روادها الأوائل بأن العقلانية والرشد يمكن أن ينتصرا على العاطفة واللاعقلانية. إنه يقدم تفاؤله بحذر مدروس فهو لا ينساق إلى أي من الحتميات, ولا يتبنى "المنطق الوضعي" الكلاسيكي الضاربة جذوره في فلسفة القرن التاسع عشر ورمزها الأكبر أوغست كومت. وهو المنطق الذي لا يقول بحتمية انتصار العقلانية فحسب, بل ويبرر أقسى الطرق العنفية لتحقيق ذلك الانتصار, وهو