كلنا يذكر كيف تولى رودي جولياني الأمور مباشرة عقب أحداث 11 سبتمبر الأليمة. حينها جاء رد الحكومة سريعا وحاسما، وحينها عانى الفقراء والأغنياء على حد سواء. ومع أن الضربة كانت قاسية، إلا أنها تركت الأميركيين موحدين وأقوياء. والنتيجة أن ثقة الشعب بالمؤسسات الحكومية وقدرتها على مواجهة أحلك الظروف قد ازدادت. وبخلاف ذلك رأينا في الأسبوع الماضي كيف ترك الحبل على الغارب في نيوأرليانز ولم يتولَّ الأمر أحد. فجهود السلطات كانت مشتتة وتدخلها جاء غير فعال بالمرة، ثم رأينا كيف أجلي الأغنياء، بينما ترك الفقراء لمواجهة مصيرهم. وفي أثناء ذلك اكتفى القادة السياسيون بإطلاق التطمينات الجوفاء، بينما ظهر اللصوص في الشوارع يعيثون فساداً. وفي اللحظة التي خرج فيها المتحزبون يكيلون التهم لبعضهم بعضاً، لف العار وجه الأمة.
وحتى تلك القاعدة الأساسية الراسخة في عمق النسيج الاجتماعي التي تدعو إلى مساعدة الناس الأكثر ضعفا أولا ديست دون اعتبار للمعايير الأخلاقية والإنسانية. والشبه الأخلاقي هنا كبير وواضح بين ترك الفقراء في نيوأرليانز لتدبر أمورهم وترك الجرحى في ساحة معركة. فلا غرو والحال كذلك أن تتقهقر ثقة الناس في المؤسسات المدنية إلى أدنى مستوياتها. ولكي نفهم لماذا تعتبر هذه الكارثة لحظة تاريخية كبرى في حياة أميركا يتعين علينا النظر إلى الإهانة الوطنية التي لحقت بنا الأسبوع الماضي والتي لم تكن سوى حلقة واحدة ضمن سلسلة طويلة من الإخفاقات التي منيت بها المؤسسات العمومية ونزعت عنها المصداقية، وهو ما أفضى إلى تغير في مزاج وسيكولوجية الشعب الأميركي. فعلى امتداد السنوات الماضية شهدنا فشل أجهزة الاستخبارات في منع وقوع هجمات 11 سبتمبر، كما فشلت في العثور على أسلحة الدمار الشامل في العراق، وشهدنا كذلك انعدام الكفاءة في إدارة جهود ما بعد الحرب. أضف إلى ذلك انهيار شركة إنرون وفضائح الفساد التي طالت سوق الأوراق المالية في وول ستريت، بل وامتدت الفضائح لتطال أيضا كبريات المجلات والصحف الوطنية، ثم اكتشفت المنشطات في الرياضة الأميركية، ناهيك عن فظائع التعذيب في معتقل أبو غريب.
وما من شك أن كل إخفاق من تلك الإخفاقات ساهم في إضعاف الروح المعنوية للجمهور وكرس حالة فقدان الثقة بالمؤسسات الحكومية وبغيرها من الهيئات التي تبين عجزها وعدم كفاءتها. فالاستياء من فشل معين يولد في النفوس شعوراً بالإحباط يفسح المجال أمام المزيد من الغضب وعدم الرضا، مما يهدد بانتشار السخط لدى الشعب والكفر بالمؤسسات. وبالرجوع إلى العقد الأخير لن يسجل التاريخ سوى أحداث مروعة تدمي القلوب، فما أن نذكره حتى تقفز إلى الذهن صور الأشخاص وهم يسقطون من برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، وصور جز الرؤوس في العراق، بالإضافة إلى صور الجثث العائمة فوق المياه في نيوأرليانز بعد مرور خمسة أيام على وقوع الكارثة. لذا فمن الواضح أن العقد الأخير سيدخل التاريخ باعتباره واحداً من أسوأ العقود. إنه عقد يؤكد نظرية الفيلسوف البريطاني "هوبز" الذي كان يقول إن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان، وإن الحياة هي نوع من حرب الكل ضد الكل. وفي نفس السياق ربما يتعين على الأميركيين أن يقروا بالحقائق المظلمة التي عادة ما نتهرب من مواجهتها مثل وهم الحضارة، والعنف المتأصل في طبيعة النفس البشرية، والكوارث البيئية المتربصة، ومحدودية معارفنا وقدرتنا على التخطيط، والبيروقراطيات المترهلة، ثم عدم حتمية انتصار الخير على الشر.
والمحصلة النهائية لفقدان الثقة بالمؤسسات أننا بدأنا نشعر وكأننا رجعنا إلى عقد السبعينات، حيث شهد هو الآخر فقداناً عاماً للثقة في مؤسسات المجتمع، بل وفي المستقبل نفسه. فجاءت الثقافة الشعبية الأميركية، بما تزخر به من تنوع موسيقي، لتعبر عن تلك الفترة الصعبة من حياة الأميركيين، حيث الجريمة مرتفعة والمستقبل غامض لا ينبئ بالخير. وفي هذا الصدد تحكي الصحفية الأميركية ميدج ديكتر كيف أنها استيقظت من سباتها بعد النهب الذي عم نيويورك عقب انقطاع التيار الكهربائي سنة 1977 فاكتشفت، وهي هنا تتحدث مجازياً، "أن البيت الذي اعتدت أن أسكنه بدأ السوس ينخر دعاماته وشارف على الانهيار". وبالرغم من صعوبة الوضع الحالي لم يصل الإخفاق بعد إلى ذلك الحد من التردي، حيث مازالت الحقائق الأساسية للحياة اليومية الأميركية متماسكة، ومازال الاقتصاد قوياً، إلا أنه في الوقت نفسه لا يمكن إنكار أزمة المؤسسات التي عجزت عن الاضطلاع بدورها الرئيس في خدمة المجتمع وإرشاد أفراده. ومع تراكم الفشل تضاعفت خيبة الأمل لدى فئات واسعة من الشعب الأميركي فتولد لديها الإحساس بأن أميركا تسلك الطريق الخطأ، وهو ما تشير إليه استطلاعات الرأي التي أجريت في الفترة الأخيرة.
وجاء إعصار كاترينا ليوجه الضربة القاصمة لما تبقى من ثقة لدى الأميركيين بمؤسساتهم وليكشف عن الضعف والعجز اللذين أمست تتخبط فيهما. لذا فإننا نشهد في الوقت الراهن مخاضا عسيرا سيفضي إلى شيء كبير في الحياة الأميركية. وربما ستكو