حاول الأميركيون أن يقنعوا رئيسهم بأن الوضع الإنساني وحتى الأمني في نيوأورليانز، بالغ السوء من جراء كارثة "تسونامي- كاترينا"، لكنهم لم يفلحوا في حمله على قطع إجازته الطويلة للاهتمام بالمناطق المنكوبة. ولما أعيتهم الحيلة لم يجدوا سوى القول إن نيوأورليانز أصبحت أشبه ببغداد بعد الاحتلال. عندئذ تحرك جورج بوش، وبسرعة، إذ أن آخر ما يريد سماعه أن عراقاً آخر قد ظهر في الأراضي الأميركية.
وعلى رغم ذهابه شخصياً إلى المنطقة التي عبث بها الإعصار، فإن الانتقادات تواصلت لتقول إنه تحرك متأخراً، وإن ما قدمه ظل أقل من المطلوب. فهناك أكثر من عشرة آلاف أميركي قضوا، معظمهم مات بسبب الإهمال وعدم وجود منظومة إغاثة، مع أن مرور "كاترينا" كان مرتقباً. وهكذا أمكن لصحيفة بريطانية أن تعنون صفحتها الأولى بعبارة "أميركا العالم الثالث".
كان بوش قد احتل الواجهة يومياً، مواكباً عملية استيلاد الدستور العراقي، وحرص على إعلان ترحيبه وتفاؤله، ذاهباً إلى حد القول إن هذا الدستور سيكون "مصدر إلهام" لدول أخرى في المنطقة العربية. ولعله تكلم في ضوء ما وصله من تقارير، ولم يستند إلى ما حصل فعلاً، لأن هذا الدستور لا يزال موضع خلاف ولأنه لم يأتِ ثمرة توافق، بل لأنه قد يتسبب فعلاً في تأجيج حرب أهلية علنية هذه المرة، طالما أن فئة تريد فرض إرادتها على فئة أخرى. والحجة هي أن الفئة الفارضة تملك الغالبية في الجمعية الوطنية الانتقالية "البرلمان". وقد يتمكن بوش من التعامل مع تداعيات إعصار "كاترينا"، إلا أن الدستور المصطنع مرشح لأن يعصف بما تبقى من كيان العراق.
كانت انتخابات 30 يناير نالت الكثير من الإشادات والتبريكات، لأن الناس خرجوا إلى صناديق الاقتراع متحدّين التهديد الإرهابي ومتجاهلين خطر الموت. لكن قد يكون حان الوقت لفتح ملف هذه الانتخابات التي انطوت على كثير من المخالفات والانتهاكات، سواء في مسار أعمالها أو خصوصاً في إعلان نتائجها.
هناك شعوب كثيرة مرت بهذه التجربة، ونادراً ما تصرف الأشخاص المعتمدون لإنجاز "دستور" على النحو الذي اختارته جماعة الحكم في بغداد. إذ غاب أو غيّب الحد الأدنى من الاحترام للأصول، فكل القوانين يمكن أن تمرر بـ"تسويات" إلا الدستور، الذي يفترض أنه "القانون الأساسي" ويجب أن يعبر عن جملة التوافقات التي تتوصل إليها مكوّنات المجتمع. وللأسف إن الفئات الحاكمة، التي تعتبر نفسها منتصرة بفعل الغزو والاحتلال الأميركيين، ظلت متمسكة بأجنداتها التي بلورتها أيام كانت في المعارضة. واتضح الآن أكثر فأكثر أنها لم تخطط أبداً لإحياء الدولة، وإنما عزمت على اقتسامها، بما يعني ذلك من اقتسام جغرافي للمناطق واقتسام للثروات والسيادة.
يمكن للمنظّرين أن يثرثروا إلى ما شاء الله، لكنهم لا يستطيعون نفي أن النص الدستوري المقترح يفتح طرقاً واسعة إلى انفصال أو استقلال "الفيدراليات" أو "الأقاليم" أو "المحافظات". فالنظام الفيدرالي يمكن أن ينبثق منطقياً من دولة مركزية طبيعية، ويمكن أن يشكل خياراً لتحقيق العدالة بين مكوّنات المجتمع. أما العراق الحالي فلا يمكن أن يعتبر مؤهلاً لـ"التفدرل". وإذا حصل القبول بسبب الضغوط والابتزازات، فإن تعميم ذلك الخيار لابد أن يعني القبول بتفتيت البلد.
انطلق الأكراد و"التحالف الشيعي" من مفهوم أخرق يرمي قبل كل شيء إلى نزع صفة "العروبة" عن العراق. طبعاً لا عروبة بالإكراه، مثلما أن نزع العروبة لا يتوقف على نزوات هذا الفريق أو ذاك. لكن البديل من العروبة هو هذا التفتيت الذي لا يسعى إلى تلبية نوازع الأطراف المتسلطة الآن على العراق فحسب، بل إنه لا يبالي بمصير من سماه "الشعب العربي" الذي اعتبره مشكوراً "جزءاً" من الأمة العربية. فأبسط شروط الفيدرالية ألا تميز بين المناطق والمواطنين، وبالتالي فإن مسألة توزيع الثروة الوطنية هي التي تجسد مفهوم العدالة الذي تهدف إليه الفيدرالية. وقد أشير إلى توزيع الثروة لكن بكلمات إنشائية تعد بقوانين تصدر لاحقاً.
لو توفرت الحكمة والوطنية لكان حصل توافق مبدئي على كل المسائل التي لا تزال خلافية وستبقى. فعندما تكون وحدة الدولة والشعب والأرض هي أساس الدستور، يمكن بعدئذ تطوير النظام وتأهيله تدريجياً ليصبح فيدرالياً أي عادلاً، وليس مفتتاً ليستعيد عهد الدويلات.