ولد عالم الاجتماع الفرنسي الكبير جورج بالاندييه سنة 1920، وهو يعتبر "عالم اجتماع" بحصر المعنى في بلاده فقط، أما في أفريقيا فيعتبر أساساً عالم أنثروبولوجيا بالنظر إلى طبيعة دراساته الثقافية والإناسية عن القارة السمراء. والفرق بين الصفتين قد لا يبدو ذا شأن عند النظرة الأولى الساذجة، ولكن الأمر مع ذلك في غاية الأهمية ليس لفاعليته كمثال للحكم على طبيعة إنتاجية الرجل الثقافية الواسعة، بل للحكم أيضاً على الطبيعة الانتقائية التي تقوم عليها استراتيجيات التسمية والتصنيف للمجتمعات البشرية في الثقافة التي يصدر هو عنها، أو لنقل بصريح العبارة في الثقافة الغربية عامة، والفرنسية بشكل خاص. وقد كان لبالاندييه نفسه دور في مثل هذه الازدواجية في التسمية حين أسهم في صك مصطلح "العالم الثالث" في مطلع الخمسينيات والذي تكرس منذ ذلك التاريخ كمفهوم على يده وبمعية زميله ألفرد سوفي حين بشرا سنة 1951 بتلك التسمية في دراسات تصنيفية اجتماعية نبيهة، فتحت لبالاندييه باب الشهرة، طبعاً إلى جانب أكثر من عشرين مؤلفاً كلاسيكياً مترجمة إلى معظم لغات العالم. وقد اتجه بالاندييه في السنوات الأخيرة للاهتمام بآثار عالم الشبكات الرقمية وعولمة الاتصال على طرائق بناء وبقاء المجتمع الإنساني كمنظومة اجتماعية وسياسية ذات طبيعة تراكمية جيولوجية تكتونية، تكتسب مع كل تغير طبقة مختلفة، وتكتشف أيضاً عالماً جديداً وهوية جديدة. والكتاب الذي نقدم قراءة سريعة لفكرته العامة في هذه المساحة الموجزة، هو آخر أعمال بالاندييه وقد صدر يوم 26 من شهر أغسطس الماضي ويسير في هذا الاتجاه في التحليل، وعنوانه:"الإزعاج الكبير".
ولكن عن أي إزعاج يتحدث؟ الإجابة التي ربما تفاجئ القارئ بعض الشيء، هي أن الكتاب على رغم ما يعج به عالمنا اليوم من إزعاجات، ومنغصات كثيرة، إلا أنه لا يتحدث عن أي إزعاج بتاتاً على رغم هذا العنوان الطويل العريض. إنه يستدعي في ذهن القارئ الفرنسي، والفرنسي تحديداً، إيقونة من إيقونات ماضيه الثقافي والتاريخي. فكلمة "الإزعاج الكبير" تعود كإيقونة ثقافية في المخيال التاريخي الفرنسي إلى مغامرة المهجَّرين "الأكاديين" الفرنسيين الذين اضطروا للنزوح عن مستعمرة "أكاديا" الفرنسية في أراضي كندا الحالية، حتى لا يكونوا ضمن ممتلكات التاج البريطاني. وتعود تفاصيل الواقعة إلى يوم 28 يوليو 1755 حين قرر المستوطنون من أصل فرنسي في المستعمرة التي غيَّر الإنجليز اسمها إلى "أنجلترا الجديدة" أن يهربوا بجلودهم بعد أن تخلت عنهم فرنسا في "اتفاق أوترخت"، وحتى لا يكون لزاماً عليهم حمل السلاح تحت التاج البريطاني ضد بلادهم الأصلية في حرب السبع سنوات التي كانت على الأبواب، فجمعوا مواطنيهم الذين كانوا ذكوراً جميعاً تقريباً، وشحنوهم في 46 باخرة، وهاموا في البحار على وجوههم متجهين جنوباً بحثاً عن وطن بديل وهوية جديدة، وقد كانت مغامرتهم هذه رحلة عذاب حقيقية، استحقت عن جدارة ذلك الاسم "الإزعاج الكبير"، حيث توفي ما بين 7000 و8000 من المجموع البالغ 13000 فقط، وقد استقر البقية في منطقة لويزيانا الفرنسية وقتها، وبالتحديد في نيوأورليانز، المدينة التي أصبح العالم يعرفها اليوم بفعل مأساة غرقها على طريقة أطلنطس المفقودة، تقريباً، في بداية هذا الشهر. وبعد فترة وجيزة استولت أسبانيا على إقليم لويزيانا، ثم استعادته فرنسا، وأخيرا بعد عقود باعت الولاية كلها للولايات المتحدة بسعر برخص التراب، وكان ذلك آخر العهد بفصاحة مغامرينا الأكاديين الفرنسيين سيئي الحظ، ومعركتهم مع الهوية والأسماء المتغيرة والوطن البديل.
والشاهد من هذه الاستعارة البليغة من وجهة نظر جورج بالاندييه أن عالمنا المعاصر، حاله كحال أولئك المغامرين المتسكعين سواء بسواء. فـ"الإزعاج الكبير" الحالي الذي تمر به هوية ومصائر مجتمعاتنا المعاصرة بل والحضارة الإنسانية بشكل عام، هو نوع من النزوح للالتقاء بعالم موعود لم تتضح نهايات آفاقه بعد. غير أن ما يميز مغامرتنا الحالية هو أنها نزوح واستكشاف في الزمان لا المكان، وفي التاريخ الآتي وليس في الجغرافيا بحال من الأحوال. إن العالم الجديد الذي نسعى جاهدين للرسو على ضفافه، ليس قائماً بذاته في انتظارنا، بل يتعين علينا نحن ابتكاره قطعة قطعة، وشيئاً فشيئاً. إنه القرية العالمية، ومجتمع اللحظة الواحدة الكونية المعولمة، التي تزداد فيها المسافات اقتراباً، والخصوصيات هشاشة، والهويات ذوباناً في بعضها بعضاً، من خلال بوتقة صهر ثقافية اجتماعية عولمية لا ترحم، وثورة اتصالية تعمل أربعاً وعشرين ساعة.
ونظرة بالاندييه طبعاً إلى كوكبنا المعولم هذا ليست نظرة شخص طوباوي غارق في أحلام اليقظة، كما أنها أيضاً ليست نظرة رجل سوداوي المزاج ومتشائم منفصل عن العالم الواقعي، فهو ينظر إلى ما يجري الآن من صعود العلم وثورة الاتصال وإعادة تشكل البنيات والعلاقات الاجتماعية الإنسانية على أنه تعبير عما "فوق حداثة"، لا تني مظاهرها عن التراكم والتبلور يوماً بعد