هناك العديد من الكتب التي تناولت ظاهرة العولمة بالشرح والتعليق، أما الكتب التي تناولت أفولها التدريجي وبداية العد التنازلي لانهيارها - والذي بدأت إرهاصاته منذ فترة- فمحدودة العدد نظرا إلى أن هذا الموضوع لازال يمثل موضوعا غير مطروق نوعا ما.
الكتاب الذي نقوم بعرضه في هذه المساحة وعنوانه: سقوط العولمة لمؤلفه "جون رالستون سول" واحد من تلك الطائفة من الكتب التي تناولت أفول العولمة وفيه يقول مؤلفه إن العولمة قد بدأت صعودها منذ عام 1971، وإن فكرتها المركزية كانت تقوم على أنه "يجب النظر إلى الحضارات من خلال الاقتصادات وحدها ولا شيء آخر". ويعود بنا المؤلف إلى فترة أبعد في التاريخ وهي فترة صعود أيديولوجية "حرية التجارة" في منتصف القرن التاسع عشر، ويصف تلك الأيديولوجية بأنها كانت ذات بعد واحد ومتطرفة اقتصاديا حيث كانت ترى أن رخاء الدولة لا يتحقق إلا إذا قامت بجعل التجارة حرة، وقامت بإتاحة الفرصة للأفراد كي يحققوا أهدافهم الذاتية حتى لو تعارضت مع مصالح الغير أو أدت إلى شقائهم.
ويرى المؤلف أن العولمة قد بلغت أوج ازدهارها في منتصف تسعينيات القرن الماضي. فبحلول تلك الفترة كانت الرسوم الجمركية على السلع قد هبطت إلى حد كبير، وكانت المئات من اتفاقيات التجارة الحرة قد وقعّت بين الدول بعضها مع بعض آخر أو بين الدول والمنظمات الدولية، وكانت معدلات الضرائب المفروضة على الأغنياء قد هبطت، وكانت الأسواق العالمية والشركات متعددة الجنسيات والعابرة للحدود قد أصبحت هي النمط السائد، وكانت الخصخصة، وتخفيف القيود والعوائق التنظيمية قد تحولت إلى موجه تكتسح العالم برمته، وكانت الإمبراطورية الشيوعية قد رفعت رايات الاستسلام وتهاوت. وقد شهد عام 1995 الذي يصفه المؤلف بأنه قد مثل نقطة الذروة بالنسبة لظاهرة العولمة ظهور منظمة التجارة العالمية، وهي المنظمة التي تم تصميمها للإشراف والسيطرة على النظام الاقتصادي العالمي الجديد. بعد ذلك بدأت العولمة كظاهرة رحلة هبوطها التدريجي حيث يرى المؤلف أن الأزمة الاقتصادية التي وقعت في جنوب شرق آسيا 97-1998، قد أبرزت بوضوح خاصية عدم الاستقرار الكامنة في صلب نظام العولمة. وكان مؤتمر منظمة التجارة العالمية الذي عقد في سياتل عام 1999 هو المناسبة الأولى التي شهدت مظاهرات صاخبة ضد العولمة. وقبل ذلك التاريخ بعام كانت المحادثات المتعلقة بما عرف بـ"الاتفاقية المتعددة الأطراف للاستثمار" The Multilateral Agreement on Investment قد انهارت. ولعله من المفيد هنا أن نذكر القراء بالموضوع الذي كان يمثل صلب تلك الاتفاقية. كانت الفقرة الرئيسية في تلك الاتفاقية تضمن أن المستثمرين الأجانب سوف "يحصلون على معاملة لن تقل في درجتها عن المعاملة التي تمنحها دولة ما لمستثمريها ولاستثماراتهم وذلك فيما يتعلق بتأسيس، وحيازة، واستخدام، والانتفاع من، وبيع، والتخلص من الاستثمارات في أي دولة من الدول الموقعة على الاتفاقية". والحقيقة أن ذلك النص تحديدا وكما يقول المؤلف كان يكشف عن الغطرسة والتعالي اللذين كان يتسم بهما النظام الاقتصادي العولمي. وكان طبيعيا أن تؤدي تلك الغطرسة إلى استفزاز مشاعر شعوب العالم النامي التي وقفت ضد تلك الاتفاقية ونجحت في إيقاف العمل بها مؤقتا قبل أن يطويها النسيان بعد ذلك. ويعقب المؤلف على هذا الأمر بقوله:"ومنذ ذلك الحين تعرضت منظمة التجارة العالمية للشلل، واستطاع العالم النامي أن يعثر على صوته المفقود، وأن يمتلك ثقة في التعامل، وهو ما تجسد في التحالف المؤقت والعملي بين الصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا". بعد ذلك يتطرق المؤلف إلى المواجهة التي تمت بين البرازيل وجنوب أفريقيا من ناحية وشركات الأدوية العالمية الكبرى من ناحية أخرى، بسبب إصرار تلك الشركات على بيع منتجاتها بأسعار باهظة تجعلها بعيدة كل البعد عن متناول الفقراء في دول العالمي النامي. وقد لفتت تلك المواجهة أنظار شعوب دول العالم النامي إلى ما في العولمة من توحش وجعلها لا تفوت مناسبة من المناسبات دون التظاهر ضدها. والمؤلف يعتقد أن العولمة تمر الآن بحالة تراجع، وهو ما سيترك العالم من وجهة نظره في حالة فراغ بعد أن تعرض النظام "الكينزي" الذي كان قائما قبل ظهور العولمة لحالة من الاهتزاز العنيف جعلته يتنحى جانبا في الكثير من الميادين مخليا الطريق للعولمة. بيد أن المؤلف مع ذلك لا يخبرنا بما سيحدث للنظام العولمي الحالي مستقبلا. وربما يكون على حق عندما يقول لنا إن ذلك النظام يمر بحالة سكون، ولكنه مع ذلك لم يقل لنا ماذا سيحدث فيما بعد. يقول المؤلف في إطار محاولته الإجابة على هذا السؤال إن الأمر برمته في يدي الولايات المتحدة التي يصفها بأنها كانت المهندس الرئيسي الذي وقف وراء تصميم نظام العولمة. وهو يقول إنه ليس من المستحيل أن تقوم الولايات المتحدة في نقطة زمنية محدده بالنظر إلى العولمة على أنها لم تعد تخدم مصالحها بشكل كاف، أو أنها أصبحت تحقق مصالح الآخرين (مثل الصين ودول جنوب شرق