"كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً"، هكذا يحدثنا القرآن الكريم عن وهم من الأوهام تتعلق به شريحة من البشر وتبني عليه أحلامها وآمالها وتفصل على قياساته رغباتها واختياراتها، حتى إذا انبلج الصبح لم تجد مما أملت شيئا، وكان حصادها هباءً.
إن الحاجة البشرية الطاغية للمعرفة والعلم والإدراك تجعل العقل البشري والنفس البشرية يلهثان باستمرار في اقتفاء أثرة من علم هنا، وبقية من معرفة هناك، وهما يسعيان بجد لتغطية مساحة الجهل المؤذية.
لقد تعب في طريق المعرفة الكثيرون، ويئسوا من مواصلة طريقها الوعر المرهق، الذي يحتاج لكثير من الجهد والضنى، فألقوا بعقولهم ونفوسهم على شواطئ الوهم المزدانة بالكسل والمكتوب على واجهاتها شاطئ الدعة!.
لا تكاد أمة من الأمم تخلو من سجادة للأساطير تنسجها على عينها، وتسوقها بجدها واجتهادها في الإقناع والتبرير، من أقصى مشارق الدنيا حيث تولد الشمس كل يوم، إلى أقصى المغرب حيث توارى في لحدها اليومي المظلم، كل أمة تصنع أوهامها على عينها وتختار أقبية الوهم والتيه التي تنتشي بالعزلة فيها، تلك الأقبية التي تمنع عنها ضياء الحقيقة ونور المعرفة والعلم.
إن الوهم والخرافة والأساطير لم تعد جزءاً صغيراً من الثقافة البشرية، ولكنها تبدو اليوم لمن يتتبع وقع حوافرها على العقول كمارد جبار لا يكاد ينجو منه إلا من رحم ربك وقليل ما هم!.
في التراث العربي والثقافة العربية كغيرها من الثقافات، مساحة كبيرة من التعلق بالأساطير والأوهام التي تساق تحت مئات التبريرات المقنّعة التي يسعى مروجوها لمنطقتها وتحميلها ما يمكن من الدلائل العقلانية المقنعة، وهي مساحة تدفع إليها الرغبة البشرية المتواصلة في كشف غياهب الميتافيزيقا، والحلم البشري في كشف كنه "التابوه" المغلق الذي يزعم كل حزب أنه يمتلك مفتاحه وكل حزب بما لديهم فرحون!.
تعلّق العربي القديم بالعنقاء والغول، وكتب فيهما القصائد والأشعار ونثر عليهما الحكم والأمثال، فلا طلعت العنقاء ولا تجبر الغول، وبقيت العقول الواهمة تقتات على موائد الأساطير ما يشبع نهم النفس إلى معرفة الغائب وكشف المستور واستكناه المستقبل.
كم هم مخطئون أولئك الذين يحسبون الوهم قد صار صفحة بالية من صفحات الماضي، وأن ضياء العلم قد بدد ظلماته الداكنة وسواده القاتم. إن الوهم متجدد والأساطير ترتدي كل يوم لباسا غير الذي سبق، وتسوق الحاجة البشرية لنا ذلك كله تحت ألف تبرير وتبرير، وما لم نضع قاطرتنا على قضبان العلم والمعرفة فستسعى الأساطير والأوهام جهدها لجرنا إلى التيه والضياع.
كم يعجبني التمثّل هنا ببيت لنزار قباني كتبه عن الحب، وأجده أجمل ما يكون في التعبير عن الوهم:
فـ(الوهم) في الأرض بعض من تخيلنا
لو لم نجده عليها لاخترعناه
إن حديث نزار عن الحب يشكل جزءا من فسيفساء الوهم المتفشية في البشرية كلها، مع مزيد خصوصية للضعفاء!
إن نظرية المؤامرة في بعدها القديم توهم المتلقي بأن خصمه يخطط لكل صغيرة وكبيرة لمضرته، حتى لكأنما هذا الخصم إله لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، لتستمر صناعة الوهم وتلبية الرغبة الإنسانية الجامحة في تغطية مساحة الغيب والدفاع عن كسل الذات وعجزها بصناعة تمثال لعظمة العدو الخارقة والمتقنة للخصومة!
ليس غريبا في خطوات البشرية الأولى تعلقها بالوهم، وليس غريبا تعلق المستمتعين بالنوم في حجرات الجهل بالأوهام، ولكن الغريب حقا أن تكون البشرية في خطواتها المتقدمة في العلم والمعرفة ولما يزلْ من أبنائها من يعبد الوهم ويخلق الأساطير أصناما يستقبلها صباح مساء.
الراقدون في ردهات الأوهام كثير، تضمهم أصناف شتى وأجناس متباينة، من ثقافات متعددة وحضارات متفرقة، وفي الثقافة العربية من ذلك الشيء الكثير.
إن الأحداث السياسية وطريقة البعض في رصدها لتعبر عن ذلك أجلى تعبير وتبين عنه أوضح بيان، أحداث الحادي عشر من سبتمبر و "غزوتي مانهاتن وواشنطن" على سبيل المثال، والأساطير والأوهام التي نسجت حولهما وسوّقت للجماهير على أنها تقصٍّ للحقيقة وركض في مضمارها، تحدثنا أن الغزوتين من تدبير المخابرات الأميركية، وفي وجه آخر لعملة الوهم تحدثنا أن التدبير كان من الموساد الإسرائيلي، لأنه لم يمت أحد من اليهود في البرجين!، وتزيد الطين بلّة حين تخبرنا أن اليهود في المبنى خرجوا بإنذار سبق ارتطام الطائرتين بفترة وجيزة!، ولم يزل فينا من يؤمن بذلك ويستلقي على قناعته الزائفة به!.
وكم تلقفت الأسماع والعقول من قبل ومن بعد نظريات للمؤامرة لم تخطر على قلب بشر ولم تطرق خيال مفكر، وركبّها أصحابها كأجمل السيناريوهات والقصص، وبالغوا في حبكها وتجميلها بحثا عن المصداقية والواقعية، وراجت على الكثيرين وقام سوقها لدى الأغلبية لأنها تستجيب للحاجة البشرية آنفة الذكر.
كنت مرةً في زيارة عمل لبلد عربي، التقيت فيه بكاتب عربي مسكون بنظرية المؤامرة، ومقتنع بكتاب "الخديعة الكبرى" لتيري ميسان حول أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وبقدر ما أنني غي