عندما كنت صبياً يافعاً أعيش في منطقة فقيرة تعتمد على بناء السفن واستخراج الفحم، وتقع في شمال شرق بريطانيا في حقبة الخمسينيات من القرن الماضي، لم أكن أرى أي شخص أسود يعيش بالقرب من منزلنا. كنت أرى أحياناً شخصاً أسود يقود دراجته عائداً من الورديات الليلية، كما كانت هناك عائلة قادمة من الهند تدير دكاناً لتوفير الحاجيات الأساسية لسكان المنطقة، وكان هناك أيضا شخص جامايكي رياضي البنية يسكن بالقرب من جامعة "نيوكاسل". بخلاف ذلك كنا لا نكاد نرى السود سوى في كتب الجغرافيا، وفي إعلانات البضائع القادمة من المستعمرات، أو في شخوص الروايات الاستعمارية التي يكتبها روائيون مثل "جون بوتشان"، و"إتش رايدار هاجارد".
لم يتغير هذا الوضع كثيراً عندما ذهبت بعد ذلك إلى مدرستي الكاثوليكية التي اقتصرت على الذكور من البيض، أو حتى عندما التحقت بعدها في جامعتي المحلية، أو عندما التحقت في النهاية بالدراسات العليا بجامعة أكسفورد. وخلال كل تلك المراحل، كنت واعياً بوجود الكثير من التقسيمات الدينية مثل البروتستانت في مقابل الكاثوليك، ولكنني وزملائي لم نقابل أية حالة من حالات التمييز العرقي.
لذلك فإنني أصبت بصدمة عندما وجدت نفسي عالقا في أتون الاضطرابات العنصرية الأميركية التي اندلعت في صيف 1967. في ذلك الوقت عندما قيل لنا إن هناك أجزاء من واشنطن غير آمنة بالنسبة لنا نحن البيض، فإننا لم نصدق ذلك، كما أننا ذُهلنا أيضاً عندما أخبرنا الجنود أننا لا نستطيع مغادرة الحافلة التي كنا نركبها ذات مرة لأن هناك أحياء من المدينة تحترق.
لقد مضى على تلك الأيام قرابة 40 عاما من الزمان أو تزيد، كما مضى ما يربو على 23 عاماً على إقامتي وعائلتي في سكن جامعة ييل. وخلال هذه السنوات تغيرت أشياء عديدة – إلى الأفضل في معظم الأحوال- وهو ما كان سبباً في اجتذاب أميركا للعديد من المهاجرين من جميع أنحاء العالم.
ولكن إذا ما كانت هناك وصمة قد وسمت نظامنا السياسي ونسيجنا الاجتماعي، فهي تلك الخاصة بالدور الذي يمكن أن يلعبه اللون في التأثير على فرص الإنسان في الحياة، بل تحديد مكان سكنه. صحيح أنه توجد هناك استثناءات كثيرة لهذه المقولة، حيث يمكن للأميركيين السود أن يفتخروا دائما بالمكانة التي وصلت إليها شخصيات مثل كولن باول، وكوندوليزا رايس، وجيسي نورمان.
ولكن الإحصائيات بشكل عام تدلنا على قصة أخرى تجعلنا نفتح عيوننا على حقيقة مزعجة. ففي الآونة الأخيرة، قام مركز "باي إريا" لأبحاث التصويت بإجراء دارسة عن "أكثر المدن محافظة وأكثر المدن ليبرالية في الولايات المتحدة". وكانت الطريقة الإحصائية التي تم استخدامها في هذا البحث مبسطة جداً، اعتمدت على نتائج التصويت، وعلى العمل الميداني للباحثين السياسيين والباحثين الاجتماعيين المتخصصين في التعرف على اتجاهات الناخبين. وكان من ضمن الأسئلة التي وجهت للأشخاص الذين استجابوا لإجراء تلك الدراسة سؤال يقول: إذا ما افترضنا أن هناك شخصاً كاثوليكياً شمالياً يعارض الإجهاض، ويدعم الحرب في العراق، ولكنه يقوم مع ذلك بالتصويت لصالح نائبه الديمقراطي في الكونجرس الذي يدافع عن صناعات الأسلحة المحلية، فهل نعتبر مثل هذا الشخص أميركيا "ليبراليا" أم أميركيا "محافظا"؟ وهل من الممكن أن نكون ليبراليين في مسألة معينة ومحافظين في مسألة أخرى؟
هناك طرق عديدة للتشكيك في النتائج التي توصل إليها المسح الذي أجراه مركز "باي إريا" حول هذه المسألة. بيد أن هناك نقطة لا يمكن الجدل بشأنها وهي وجود علاقة بين العرق أو العنصر من ناحية، وبين العقيدة السياسية وأنماط التصويت ومحال الإقامة من ناحية أخرى. دعونا على سبيل المثال نأخذ حقيقة أعتبرها مزعجة للغاية، لأنها تمس جوهر الافتراض القائل إن أميركا عبارة عن "بوتقة صهر". فبالنسبة لتلك النقطة من البحث التي كانت تتعلق بالأشخاص والأماكن التي يعيشون فيها، تبين أن الأميركيين السود يوجدون بأعداد قليلة لا تكاد تذكر في الخمس وعشرين مدينة التي اعتبرت من أكثر المدن محافظة في أميركا بينما يوجدون بأعداد كبيرة بل ويشكلون الأغلبية الساحقة في خمس وعشرين مدينة من المدن التي كانت تعتبر من أكثر المدن الأميركية ليبرالية في الولايات المتحدة.
بيد أن أي تحليل للمجتمع الأميركي لا يستطيع أن يركز فقط على معادلة السود/ الفقراء في مقابل البيض/ الأغنياء، إذ أن هناك أشياء أخرى ينبغي أخذها في الحسبان. فكما نعرف، فإن أعداد السكان من أصول أسبانية لاتينية، أو آسيوية، تزايدت على نحو سريع خلال العقود الأخيرة، كما صعد الكثيرون منهم إلى فئات الدخل التي تتراوح ما بين المتوسطة والعالية.
وليس في هذا ما يضير أو يزعج في الحقيقة. ولكن الشيء الباعث على الانزعاج هو أن عدد الأشخاص السود الذين حققوا إنجازات أو نجاحات كان أقل مما كان متوقعاً بكثير، خصوصاً إذا ما أخذنا نسبتهم العددية مقارنة مع العرقيات الأخرى في الولايات المتحدة الأميركية في الحسبان. فضلاً عن ذلك، فإن متوسطات الدخل