كلنا نعرف أن الثقافة العربية تعاني، منذ ما يقرب من قرنيـن، وضعا متوترا نتيجة احتكاكها مع الثقافة الغربية، بتقنياتها وعلومها وقيمها الحضارية التي هي نتيجة تطور خاص قوامه التحديث والحداثة، تطور لم تعشه الثقافة العربية، بل بقيت بمعزل عنه تجتر وضعا قديما توقف عن النمو منذ قرون.
ومن هنا تلك الثنائية التي تطبع الثقافة العربية بمختلف مستوياتها المادية والروحية، ثنائية التقليدي والعصري. وهي ثنائية تكرس الازدواجية والانشطار داخل الهوية الثقافية العربية بمستوياتها الثلاثة: الفردي والجمعوي والوطني القومي: أحد طرفي هذه الثنائية يعكس الهوية الثقافية على صورة "جمود على التقليد" ضمن قوالب ومفاهيم وآليات دفاعية تستعصي على الاختراق وتقاوم التجديد. والآخر يجسم الاختراق الثقافي وقد اكتسح الساحة اكتساحا ليتحول إلى ثقافة الاختراق، أعني الثقافة المبشرة به المكرسة له.
في هذا الإطار إذن يجب أن نضع خصوصية العلاقة بين العولمة والهوية الثقافية عندما يتعلق الأمر بالوطن العربي. فالاختراق الثقافي الذي تمارسه العولمة لا يقف عند حدود تكريس الاستتباع الحضاري بوجه عام فحسب، بل إنه أيضا سلاح خطير يكرس الثنائية والانشطار في الهوية الوطنية القومية، ليس الآن فقط بل وعلى مدى الأجيال الصاعدة والقادمة. ذلك أن الوسائل السمعية البصرية، المرئية واللامرئية التي تحمل هذا الاختراق وتكرسه إنما تملكها وتستفيد منها فئة معينة هي النخبة العصرية وحواشيها، فهي التي تستطيع امتلاكها والتعامل مع لغاتها الأجنبية، بحكم التعليم "العصري" الذي تتلقاه. أما "عموم الشعب" وعلى رأسه النخبة التقليدية فهو في شبه عزلة، يجتر بصورة أو بأخرى ثقافة "الجمود على التقليد". والنتيجة استمرار إعادة إنتاج متواصلة ومتعاظمة للثنائية نفسها، ثنائية التقليدي والعصري، ثنائية الأصالة والمعاصرة، في الثقافة والفكر والسلوك.
ما العمل إزاء هذه السلبيات والأخطار التي تطبع علاقة العولمة بالعرب على صعيد الهوية الثقافية؟
هناك موقفان سهلان، وهما السائدان: موقف الرفض المطلق وسلاحه الانغلاق الكلي وما يتبع ذلك من ردود فعل سلبية محاربة... وموقف القبول التام للعولمة وما تمارسه من اختراق ثقافي واستتباع حضاري، شعاره "الانفتاح على العصر" و"المراهنة على الحداثة".
لا مفر من تصنيف هذين الموقفين ضمن المواقف اللاتاريخية التي تواجه المشاكل، ليس بعقل واثق بنفسه متمكن من قدراته، وإنما تستقبلها بعقل "مستقيل" لا يرى صاحبه مخرجا من المشاكل إلا بالهروب منها، إما إلى الوراء وإما إلى الأمام، كل سلاحه رؤية سحرية للعالم تقفز على الواقع إلى اللاواقع.
إن الانغلاق موقف سلبي، غير فاعل. ذلك لأن فعله "الموجه" ضد الاختراق الثقافي -أي محاربته له- لا ينال الاختراق ولا يمسه ولا يفعل فيه أي فعل، بل فعله موجه كله إلى الذات قصد "تحصينها". والتحصين إنما يكون مفيدا عندما يكون المتحاربان على نسبة معقولة من تكافؤ القوى والقدرات. أما عندما يتعلق الأمر بظاهرة عالمية تدخل جميع البيوت وتفعل فعلها بالإغراء والعدوى والحاجة، ويفرضها أصحابها فرضا بتخطيط واستراتيجية، فإن الانغلاق في هذه الحالة ينقلب إلى موت بطيء ، قد تتخلله بطولات مدهشة ولكن صاحبه محكوم عليه بالإخفاق.
ومثل الانغلاق مثل مقابله: الاغتراب. إن ثقافة الاغتراب، أعني إيديولوجيا الارتماء في أحضان العولمة والاندماج فيها، ثقافة تنطلق من الفراغ، أي من اللاهوية، وبالتالي فهي لا تستطيع أن تبني هوية ولا كيانا. يقول أصحاب هذا الموقف: إنه لا فائدة في المقاومة ولا في الالتجاء إلى التراث، بل يجب الانخراط في العولمة من دون تردد ومن دون حدود، لأنها ظاهرة حضارية عالمية لا يمكن الوقوف ضدها ولا تحقيق التقدم خارجها. إن الأمر يتعلق بـ "قطار يجب أن نركبه" وهو ماض في طريقه بنا أو بدوننا. ولا يوضح أصحاب هذه الدعوى هل سنبزر هوياتنا عند ركوب القطار أم أننا سنركبه بدون هوية، بدون ورقة تعريف، كما يفعل...!؟
أما نحن فنرى أن الجواب الصحيح عن سؤال "ما العمل"؟ –سواء إزاء الثنائية والانشطار اللذين تعاني منهما الثقافة العربية، أو إزاء الاختراق الثقافي وإيديولوجيا العولمة- يجب أن ينطلق أولا وقبل كل شيء من العمل داخل الثقافة العربية نفسها. ذلك لأنه سواء تعلق الأمر بالمجال الثقافي أو بغيره، فمن المؤكد أنه لولا الضعف الداخلي لما استطاع الفعل الخارجي أن يمارس تأثيره بالصورة التي تجعل منه خطرا على الكيان والهوية.
إن الثنائية والانشطار -اللذين تحدثنا عنهما واللذين يشكلان نقطة الضعف الخطيرة في واقعنا الثقافي الراهن التي منها يمارس الاختراق تأثيره التخريبي- إنما يعكسان وضعية ثقافة لم تتم بعد إعادة بنائها، وضعية ثقافية يتزامن فيها القديم والجديد، والأصيل والوافد، في غير ما تفاعل ولا اندماج. وهذا راجع إلى أن التجديد في ثقافتنا كان يراد له، منذ أزيد من قرن، أن يتم من "الخارج": بنشر الفكر الحديث على سطحها. لقد سبق لنا أن أكدنا م