يُحكى أن بدوية اسمها شعيلة، كانت سيئة السمعة والسيرة، وشاع عنها أنها تُقيم علاقات غير مشروعة مع الرعاة في المرعى وبعيداً عن عيون الناس. ساءت سمعتها لدرجة أنها أصبحت مسبة، فمن شاء أن يُعيّر أحداً ويطعنه في شرفه يصفه بأنه "شعيلة أم الرعيان". والرعيان جمع رعاة في بعض اللهجات البدوية، والمقصود بأم الرعيان "بتاعة الرعاة" باللهجة المصرية، وأصبحت شعيلة هي سبب كل مصيبة، فإن تشاجر الرعاة قالوا إن السبب "شعيلة أم الرعيان"، وإنْ جاء غزو، قالوا إن السبب "شعيلة أم الرعيان"، وإنْ وقف القطر وأجدبت الأرض، قالوا إن السبب "شعيلة"... وهكذا.
طبعاً قد تكون شعيلة بريئة من كل الاتهامات، ولكن هكذا كانت سمعتها.
الولايات المتحدة الأميركية تواجه مأزقاً في العراق، هذه حقيقة لم تعد خافية على أحد، صحيح أن هناك بوادر أمل في تجاوز هذا المأزق والتغلب عليه، تظهر هذه البوادر فينة وتتلاشى فينات، ولكن أميركا ارتكبت أخطاء فظيعة بعيد سقوط صدام، ساهمت بشكل كبير وأساسي في إخفاقاتها، فقد استمعت للنصيحة الخطأ، وحلت الجيش العراقي، وقوات الشرطة والأمن كلها، وتركت الحدود مفتوحة دون رقيب أو حسيب، وسرحت الوزارات بموظفيها، وقررت اجتثاث البعث – كل البعث، والبعثيين- كل البعثيين، وعينت حاكما أميركيا - كان جنرالاً (غارنر) سرعان ما أقالته وأتت بأفندي (بريمر) حكم العراق خمسة عشر شهراً، ثم انقرض. وأعلنت أميركا بسرعة في نشوة سقوط صدام القياسية أنها تنشد "إصلاح" المنطقة، بما فيها إيران وسوريا. كانت ولا تزال تظن أن الأمور سوف تسير كما تشاء وبسهولة ويسر، ولكن الرياح سارت بما لا تشتهي السفن، فسقطت "البعثية" الفاشية الصدامية ليسود العراق اليوم بدلا منها فاشية دينية طائفية، ودخلت أميركا في حرب استنزاف غير متوقعة، ودوامة عنف حصدت آلافاً من العراقيين منذ سقوط صدام.
كل الاتهامات الأميركية تتوجه إلى سوريا كسبب لتدهور الأوضاع في العراق، وأصبحت سوريا في نظر الأميركان "شعيلة أم الرعيان"، التي تتحمل كافة الإخفاقات الأميركية في العراق، صحيح أن سوريا ليست بريئة من الاتهامات، وأن فيها تياراً قديماً ينشد توريط أميركا في العراق على حساب الشعب العراقي المنكوب، وفريقاً أيديولوجياً يرى أنه الوريث الأيديولوجي الشرعي للبعث في العراق. وفي سوريا تجار حروب يتكسبون بتهريب الإرهابيين، ولسان حال الفرق جميعا يقول: أنا الغريق فما خوفي من البلل، أميركا تهددنا ولا تستبعد الخيار العسكري ضدنا، فلماذا ننتظرها حتى تأتي إلى دمشق؟ وفي سوريا أيضا ينزوي تيار عقلاني ضعيف، يحاول التعامل مع التدهور العراقي بأقل قدر ممكن من الخسائر وتجنب المواجهة مع أميركا.
وفي الجهة الشرقية، نجد أن إيران تمارس دوراً لا لوم عليها فيه، فلو كنت إيرانياً، لوجدت في العراق اليوم فرصة لتوريط أميركا في وحل دموي عراقي لا مخرج لها منه، خصوصا وأن أميركا قدمت لإيران ما لم تكن تحلم به، رغم إعلان أميركا المتكرر بأن إيران أحد محاور الشر في العالم، ولكن أميركا أسقطت عدو إيران الأيديولوجي في شمالها- الاتحاد السوفييتي دون أن تطلق إيران رصاصة واحدة، وعدوها الطائفي "طالبان" في الشرق، أيضا دون أن تطلق إيران رصاصة واحدة، ثم أسقطت عدوها اللدود - صدام حسين غربا- دون حاجة إلى استئناف قادسية صدام، وبعد ذلك استلمت إيران الجنوب العراقي المليء بالنفط والأماكن السياحية المقدسة في النجف وكربلاء على طبق من ذهب، والفضل في ذلك يعود لأميركا.
ولكن أميركا لا تزال تصر على أن سوريا... شعيلة أم الرعيان.