تناقل بعض الصحف مؤخراً أن مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس تركيا الجمهورية ومهندس علمانيتها، تعرض قبل أيام لحملة من الشتم والتشهير العلنيين في مدينة اسطنبول. وفي الغضون هذه تمنعت قوات الأمن والشرطة عن تحريك أي ساكن دفاعاً عن شرف التركي الأكبر. ذاك أن مئات المصلين الذين اجتمعوا في باحة مسجد الفاتح، دعماً منهم لتظاهرة "حزب التحرير الإسلامي" المحظور، هم الذين أطلقوا العنان لألسنتهم بحق أتاتورك، فيما كان "يلماز شيليك"، المتحدث باسم الحزب، يُقسمُ بأن يرفع راية الخلافة الإسلامية مجدداً. وهو حدثٌ لا يكفي بذاته لأن يستوقف الكثيرين رغم تجرئه على المُحرّم الذي هو أتاتورك. فالحزب المذكور حزب صغير وهامشي بعد كل حساب. لكن المُقلق أن يندرج تطور كهذا في سياق أعرض مفاده الارتداد عن أوروبا وتراجع الشعبية التي تؤيد الانضمام إلى اتحادها. وبالمعنى هذا، تصير حيادية رجال الأمن حيال الشاتمين والمُشهّرين موضعاً للتساؤل، لا سيما وأن الصحافة التركية والغربية شرعت، في الفترة الأخيرة، تلمح إلى وجهة انفضاض متنامية عن أوروبا، سببها شعور الأتراك بـ"الإهانة الوطنية" التي تعرّضهم لها القارة. وكان انبعاث موضوع الأديب التركي "ياشار كمال" وإصدار حكم عليه، أدى به إلى الانتقال إلى أوروبا أمراً لافتاً. ذاك أن كمال طالب بمراجعة واعتذار تركيين من الأرمن، وبإقرار بالمسؤولية التركية عما نزل بالأكراد، الأمر الذي عُدّ، في بلده، موقفاً هرطوقياً وخيانياً يطاله القانون.
ومن الزاوية هذه يمكن القول إن أتاتورك هو، في البيئة الإسلامية على الأقل، الرمز والاسم الحركي لعملية الاتجاه غرباً. ذاك أن المشروع الأتاتوركي، في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي، هو الذي أرسى ركائز الاتجاه المذكور ودعاماته الثلاث كما يلخصها الكاتب التركي "دوياغو سيزر":
فأولاً، قاد تبنّيه العلمانية إلى تعريف دور الدين في الدولة والمجتمع التركيين بموجب صيغة "الفصل بين الدولة والدين". كذلك ألغيت الخلافة الإسلامية في 1924، ما أنهى رسمياً الموقع الإسلامي لتركيا بوصفها القائد والمرجع الروحيين للمسلمين السنّة في العالم. وكان هذا بمثابة رسالة مبكرة إلى الغرب مؤداها أن الإسلام لم يعد يحتل في تركيا المكان الذي سبق أن احتلّه قبلاً.
وثانياً: علمنة النظام القضائي، إذ أوقف العمل بالشريعة كأساس للأحكام. وفي المقابل، تم اعتماد النظامين القضائيين الإيطالي والسويسري اللذين نجم عن دمجهما قانون مدني جديد، كانت المرأة أول من استفاد منه. فقد مُنحت النساء، نظرياً على الأقل، مساواة كاملة بالرجال، أكان ذلك في العائلة أم في الحياة العامة، كما ألغي تعدد الزيجات، وحل الزواج المدني محل الزواج الديني. وامتد الأمر إلى الملابس فمُنع ارتداء الحجاب في الحيّز العام.
وثالثاً، تبني نظام وطني موحد للتعليم الرسمي. هكذا ألغيت الازدواجية العثمانية التي أبقت طويلاً على نمطي المدارس الديني والزمني جنباً إلى جنب. وفي هذه الغضون أُغلقت معاهد ومؤسسات التعليم الديني كما استُبدلت الأبجدية العربية بأخرى لاتينية وتُرجم أكثر من 400 كتاب تُعتبر من عيون الأعمال الكلاسيكية الغربية كي تُدرَّس في تركيا.
لهذا يُعد التهجم على أتاتورك تهجماً على ذاك النهج الذي ابتدأ معه قبل قرابة قرن، ويجد اليوم تتويجه في موضوع الانضمام إلى أوروبا. ويبدو أن المسألة القبرصية هي ما يلعب راهناً دور المحرض الأساسي على هذا النفور المستجد. فعشية افتتاح المحادثات حول عضوية أنقرة في الاتحاد يوم 3 أكتوبر المقبل، حدد الأوروبيون التوجهات العريضة لموقفهم: صحيح أنهم لن يطالبوا تركيا بالاعتراف بجمهورية قبرص (اليونانية) التي ضُمت إلى الاتحاد أواسط العام الماضي، إلا أنهم مصرون على قيام أنقرة بتطبيع علاقاتها التجارية مع البلدان الـ25 الأعضاء في الاتحاد، وفي عدادها قبرص. ويأتي الموقف هذا رداً على البيان الذي أصدرته الحكومة التركية في 29 يوليو الماضي حيث أوضحت أن توسيع العلاقات التجارية وإزالة الرسوم الجمركية بين دول الاتحاد لا يعنيان بالضرورة الاعتراف بقبرص.
وللمناسبة، لم يفوّت السياسيون الأوروبيون فرصة إلا ولوّحوا فيها بالتشدد. ففي مقابل الحماسة التي أبداها وزير الخارجية البريطاني جاك سترو لانضمام تركيا (وهو موقف أميركي- بريطاني مشترك)، دفعت فرنسا واليونان وقبرص باتجاه مغاير تماماً. وفي المناخ هذا، عادت إلى الصدارة فكرة "الشراكة" مع الاتحاد الأوروبي، بدل العضوية فيه، وهي الفكرة التي جدد وزير الخارجية عبدالله جول الهجوم عليها، قائلاً إن بلاده مستعدة لأية علاقة بعد تسوية المسألة القبرصية بصورة نهائية.
وكان ملحوظاً، في هذا السياق، ما صدر عن وزيرة الخارجية النمساوية "أورسولا بلاسفيك" إذ أبدت اعتراضات بلدها على الانضمام التركي، مفضّلة عليه صيغة الشراكة. والموقف نفسه هو ما تدعو إليه "أنجيلا ميركيل" التي قد تصبح مستشارة ألمانيا بعد انتخابات يوم غد الأحد، إذا ما فاز المسيحيون الديمق