عندما قامت الشرطة اللبنانية في أغسطس الماضي باعتقال أربعة من قادة الجيش والمخابرات السابقين، سارع المعلقون العرب للقول إن أمراً جسيماً يهيأ ليس فقط للبنان، بل للعالم العربي برمته. ويذكر أنه تم توقيف القادة الأمنيين الأربعة الذي يعتبرون أعمدة أساسية في نظام الرئيس إميل لحود الموالي لسوريا على خلفية التحقيق في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري. وجاء الاعتقال بطلب من ديتليف ميليس المحقق الألماني المكلف من قبل الأمم المتحدة بالتحقيق في القضية. أما بالنسبة لآراء المعلقين العرب حول الموضوع فقد اعتبر أحدهم أن التحقيق الأممي بمثابة "زلزال" جاء لينهي "عصر الاغتيالات السياسية". ورأى آخر أن الاعتقال يدشن لمرحلة "انتهاء الهيمنة السياسية التي تمارسها المؤسسة العسكرية والسياسية في العالم العربي" مشبها هذه المرحلة بميلاد حركة "التضامن" العمالية في أوروبا الشرقية التي عجلت "بانهيار نظام الدولة البوليسية في المعسكر الشيوعي".
وبالطبع لن يكون سهلا إنهاء سيطرة الأنظمة الأمنية على مجمل الحياة السياسية، خصوصاً في دمشق، حيث يعتزم المحقق ميليس توسيع دائرة التحقيق لتشمل بعض كبار المسؤولين في سوريا. هذا وتكتسب قضية اغتيال الحريري أهميتها الكبرى من أنها تشكل نموذجاً مغايراً للتدخلات الأجنبية التي تجري في المنطقة كالحرب في العراق. وإذا كان التدخل في لبنان على نطاق محدود يختلف كليا مع التدخل الشامل في العراق، فإنهما مع ذلك يشتركان في هدف واحد يتمثل في إعادة تشكيل الحكومات التي ظلت نهباً للصراع وسوء الإدارة، ومعالجة الاختلالات التي تعصف بها كالاستبداد، والإرهاب، وانتهاك حقوق الإنسان.
وفي الوقت الذي يغرق فيه التدخل الأميركي في العراق في مستنقع ينذر بالكارثة، ينبئ التدخل في لبنان، الذي يلاقي ترحيباً من جانب المجتمع اللبناني، بالنجاح في تحقيق أهدافه. ويعزى نجاح تجربة التدخل الأجنبي في لبنان إلى السياسية الداخلية القائمة في مجملها على التعددية الطائفية، فضلا عن تقاليدها الديمقراطية القوية التي شكلت على الدوام حجر عثرة أمام السيطرة السورية المطلقة. غير أن إفراط سوريا في محاولتها للهيمنة على لبنان عجل بظهور "انتفاضة الديمقراطية" التي دعمها المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة وفرنسا، وأدت إلى تشكيل لجنة أممية للتحقيق في جريمة اغتيال رفيق الحريري.
وتشكل المساعي التي يبذلها المحقق ميليس للوصول إلى الحقيقة جزءا أساسيا من عملية إعادة بناء لبنان على أسس جديدة. وعلى رغم أن الأمور تبدو على ما يرام في الوقت الراهن، فإن التقرير الذي رفعه ميليس إلى الأمم المتحدة، وتسربت بعض فقراته إلى الصحافة، يعلن شكوكه حول قدرة المؤسسات اللبنانية على محاكمة المشتبه فيهم، وإدانتهم بالجريمة. فالشهود يخشون الانتقام من النظام القديم الذي مازال يصارع من أجل الحفاظ على سلطته تحت قيادة الرئيس إميل لحود. لكن التحديات التي يواجهها ميليس في لبنان لا تُقارن بتلك التي تنتظره في دمشق، خصوصا مع توالي الضربات القاسية ضد النظام البعثي السوري بدءا بانسحاب القوات السورية من لبنان، ووصولاً إلى ما يمكن أن يسفر عنه تحقيق ميليس من تورط سوري في اغتيال رفيق الحريري، وهو ما سيكون الضربة القاضية للنظام "البعثي" في حال ثبت تورطه.
وأمام هذه التطورات يواجه الرئيس السوري بشار الأسد خياراً صعباً، فإما التعاون مع المحقق الأممي ميليس، أو التصلب أمام طلباته وعرقلة مساعيه. ولئن كان الرئيس بشار قد أبدى ترحيبه بالمحقق الأممي، فإننا لسنا متأكدين من استمرار هذا الترحيب في حالة استدعاء شخصيات أمنية كبيرة في سوريا إلى طاولة الاستنطاق، خاصة وأن النظام الحالي في دمشق قائم على التضامن العشائري وتوافق القوى المتنافسة. لذا فإنه لو حاول التضحية بالآخرين، فإن ذلك سيؤدي إلى انفجار داخلي، خصوصا في غياب معارضة قوية يمكن أن تتولى إدارة البلاد.
أما في حال تحدي بشار لميليس فسيكون ذلك ضربا من الانتحار، حيث ستتحول سوريا إلى جزيرة معزولة دوليا، وستصطف أوروبا وراء الولايات المتحدة في فرض عقوبات اقتصادية على دمشق. وفي ظل هذا الوضع سيزداد استياء الشعب السوري من سياسات النظام الذي زج به في صراعات لا قبل له بها، وفاقم من مشكلاته الاقتصادية المستفحلة جراء التهم والمزاعم الموجهة إلى دمشق في اغتيال رفيق الحريري.
والنتيجة أن العديد من السوريين يرغبون في رؤية قادة النظام "البعثي" يمثلون أمام المحاكم الدولية لكي ينالوا قصاصهم جراء ما اقترفت أيديهم. لكن في المقابل يخشى السوريون من تدهور الوضع في بلادهم على شاكلة ما يجري في العراق حاليا، وتتحول المسألة من أزمة نظام إلى أزمة بلد بأكمله قد تشرع الأبواب أمام حرب أهلية طاحنة. ومع تزايد الضغوط على النظام السوري واشتداد الخناق حوله يبدو أن الورقة الوحيدة التي باتت في أيدي بشار هي تطبيق المثل القائل "أنا ومن بعدي الطوفان" والذي يعني التوصل إلى صفقة مع القوى الدولية يستط