مع كل طفرة تنموية وحركة قوية في العجلة الاقتصادية، يطل الغلاء والتضخم بأنيابهما وحشاً يهدد العديد من المنجزات التي تحققت نتيجة النمو الاقتصادي المطرد. والإمارات اليوم، ومن خلال العديد من التقارير الاقتصادية المتلاحقة، مهددة بموجة من الغلاء متلازمة مع الطفرة الاقتصادية القوية التي تشهدها الدولة، وتتساءل العديد من هذه التقارير عن تأثير الغلاء ونسبته وهل ستجعل من الإمارات مركزاً أقل جاذبية للعديد من الرساميل والاستثمارات الخارجية؟
وللغلاء وجه آخر أكثر بشاعة يؤثر على الإنسان البسيط في هذه الأرض الطيبة، سواء كان مواطناً من مواطنيها أم مقيماً تحت شجرتها وارفة الظلال. فالعديد من هؤلاء الناس قليلي الدخل والفرص لا حول ولا قوة لهم وهم يرون كل ما يحيط بهم تأثر تأثراً كبيراً بارتفاع جنوني للأسعار، ارتفاع طال المسكن والوقود والطعام والبناء والمدارس وغيرها من الخدمات والسلع. ومثل هذه الملاحظة تتردد على ألسنة الناس وبشكل يومي وهي تقارن بين الزيادة الكبيرة للأسعار وزيادة المرتبات والعلاوات وعلى رأسها مكرمة صاحب السمو رئيس الدولة.
والغريب في الموضوع ورود جملة من الإشارات المتناقضة والتي تصدر من قبل العديد من القطاعات في الدولة، حكومية وخاصة، فبينما يتحدث بعض المسؤولين عن خطر التضخم والغلاء وارتفاع الأسعار، نجد أن جهات حكومية أخرى، وكأنها في وادٍ آخر، وهي تصدر قرارات تلعب دوراً أساسياً في موجة الغلاء الحالية سواء من خلال الزيادة الكبيرة للإيجارات أو القرار الأخير والخطير حول رفع أسعار الوقود، إشارات متناقضة ومحيرة من جهات حكومية مختلفة. وما يزيد من الحيرة تصميم الحكومة على مكافحة ارتفاع الأسعار في العديد من القطاعات وعلى رأسها الأدوية والمواد الغذائية.
ونعود إلى قرار رفع أسعار البترول، وفي دولة نفطية، والذي تم تطبيقه في مطلع هذا الشهر، فمثل هذه الخطوة غير مفهومة، ومثل هذه الزيادة لم تحظَ بالنقاش المفترض والمطلوب لقرار حيوي بمثل هذا المستوى. وقد تكون لهذا القرار مبرراته الاقتصادية الصحيحة، ولكن هذه المبررات لم تتم مناقشتها بالصورة المطلوبة، ولا يخفى أن ارتفاع أسعار الوقود أصبح كقميص عثمان فيما يتعلق بموضوع الغلاء، فاستغلته العديد من القطاعات وكيفته حسب الحاجة والمصلحة، وأصبح الكل يجد عذره في ارتفاع أسعاره بربطه بأسعار الوقود. وفي بعض الحالات يبدو العذر مقبولاً والزيادة في الأسعار منطقية، وفي العديد من الحالات الأخرى أصبح سعر الوقود غطاء للجشع الرأسمالي الصغير والاستغلال الرخيص الذي يحاول البعض أن يشرع له من خلال هذا القرار والذي كان له صدىً سلبي وقوي في المجتمع.
الجانب الآخر الذي لابد من أن نتطرق له، يتعلق بكيفية التعامل مع خطر التضخم والغلاء، فالآلية السياسية للعديد من القرارات والتي تؤثر على التضخم غير واضحة أو لم يتم تفعيلها، فجاءت بعض القرارات وكأنها في فراغ ولا علاقة لها بالبعد السياسي المرتبط بموضوع الغلاء والذي لا يمكن ولا يجوز فصله عن السياسي واعتباره شأناً اقتصادياً صرفاً. ومن جهة أخرى نرى أن رد الفعل لم يأخذ في الاعتبار أن التصدي للتضخم والغلاء في العديد من المجتمعات المتطورة يتم من خلال سياسات اقتصادية ومالية تتناول المشهد الاقتصادي ككل، سياسات "ماكرو اقتصادية" تعالج الظاهرة وتتحكم في مستوى السيولة ومعدلات النمو وما إلى ذلك من أدوات مالية واقتصادية متاحة. ومن خلال تجربة الدول ندرك أن هذه الآليات أكثر فعالية من محاولة حراسة الأسواق والتأكد من أن المؤسسة الفلانية لم ترفع أسعارها وبالتالي فالسوق لم ترتفع أسعاره، وهو بلاشك أسلوب تفصيلي متعب يرى الأشجار ولا يرى غابة الغلاء وتأثيرها على الوضع الاقتصادي للدولة.