في حشد كبير مثل قمة الأمم المتحدة، بمناسبة مرور ستين عاماً على قيام هذه المنظمة العالمية، فضل الرؤساء والحكام أن يتحول اللقاء إلى "سوق للكلام" بأكثر من ضبط الالتزامات. ضاعت حقوق الدول الصغيرة أو الضعيفة، كما هو الحال مع الدول الأفريقية، وتاهت ملامح القضايا الخاصة بمناطق كاملة مثل المنطقة العربية، وراح البعض يُسوق بضاعته في أجواء مساومات على المواقف والمطالب مثل "مجموعة الأربعة" الطامعة في العضوية الدائمة لمجلس الأمن، أو المجموعة الأوروبية في مواجهة التغول الأميركي في أكثر من زاوية. وقد ساعدت ظروف كثيرة على بقاء اللقاء كله في هذا الإطار، فليس ثمة أمين عام آمن الجانب ليعرض قضايا الشعوب بقدر أكبر من المكاشفة والقوة الأدبية ما دام محاصراً باتهامات جاهزة سلفاً، وليس ثمة صراع حول القطبية التي عرفتها هذه المنظمة طويلاً نتيجة تعدد "الأنظمة" الرئيسية في العالم، رأسمالية، اشتراكية، حيادية... إلخ، بل وليس ثمة زعامات كاريزمية خطيرة الشأن مثلما شهده العالم في قمة الأمم المتحدة عام 1960 بحضور خروتشوف، عبدالناصر، نهرو تيتو، كاسترو... وأمثالهم. ففي ذلك الزمان، وضع "خروتشوف" حذاءه على منصته احتجاجاً على السياسات الرأسمالية الإمبريالية، ونجحت زعامات أخرى في إقامة "لجنة تصفية الاستعمار"، وأنشئت لجنة الوصاية لتحرير ناميبيا من النظام العنصري في جنوب أفريقيا، ولجنة حقوق الشعب الفلسطيني. ومثل القمة الجامعة عام 1960 التي عدلت مسار تقسيم العالم الذي تم عام 1945، وأسست لمرحلة امتدت تقريباً حتى عام 1990.
وقد تصور البعض أن تأتي قمة 1995 أو قمة 2000 لتقول شيئاً جديداً، ولكنها لم تضف للعالم إلا حنين السلام ووقف مخاطر الاستقطاب مرة، أو صياغة "أهداف التنمية الألفية الجديدة" مرة أخرى، وفي الحالتين كانتا "سوقاً للكلام"، ومن ثم لم يتوقع أحد هذه المرة في عام 2005 إلا مزيداً من الوعود، بل إن المتأمل بعمق أكثر لا يسعه إلا ملاحظة تدهور "الخطاب العالمي" ليتجاهل مطلب وجود "تنظيم دولي" حقيقي في مواجهة"النظام العالمي" الذي بات يحكمه الآن قطب واحد. وحتى هذا القطب وعملية الاستقطاب نفسها، لم تعد تعالج "فضاء السياسة والقيم" بقدر ما راحت تعالج المصالح الذاتية أو التجارة وليس الاقتصاد السياسي للعالم. هذا ما بدا في خطاب القطب الأعظم الأميركي، وبدت من خلاله ضرورات تحقيق أمنه واستقراره على القمة، ضد "الدول الفاشلة"، والقابلة للعنف والأيديولوجيات العدوانية، والمجتمعات الجامدة، التي تشكل أرضية خصبة للإرهاب... وانتشار روح الكراهية والقتل. وأظن أن الرسالة قد وصلت سريعاً إلى الدول العربية والإسلامية بوجه خاص، ولذا لم نر عقب ذلك حديثاً عن حالة العنف والاحتلال في العراق أو حالة الاحتلال والعنف والتعنت في فلسطين، أو الحالة الباكستانية البائسة بين الهند وأفغانستان...إلخ. إذن بقي موضوع الإرهاب هو الأساس، ومن وجهة نظر أميركية بحتة لا تضع له تعريفاً حيث الرفض له "في كل صوره وأشكاله"، والهدف من ذلك مفهوم بالطبع.
وإذا كانت هذه هي بداية "الخطاب" السائد في سوق القمة الستينية، فقد فهم الجميع الرسالة، فلم يصمم أحد على اعتماد خطة إصلاح الأمم المتحدة، وإنما تحول جوهرها لتبحثها "لجان" الجمعية العامة ومصيرها معروف بدوره، علماً بأن الجمعية العامة استغرقت أكثر من عام سابق في مثل هذه "الدراسات" ووضع "المذكرات... ولم يكن ثمة أجواء مساعدة لمعالجة موضوع مجلس الأمن وعضويته الدائمة، إذ نجحت الإشارات الأميركية المبكرة لوقف الحديث في هذا الموضوع حتى تنتهي الولايات المتحدة من ترتيب العالم، ومشاكلها المعقدة فيه، ليس فقط في مستنقع العراق ولكنها أيضاً ممتدة إلى كوريا الشمالية وإيران وإلى سوريا والسودان وحتى موريتانيا والصحراء الغربية.
وتخشى الولايات المتحدة بالطبع من معالجة مثل هذه القضايا في ظل دخول الدول الملحة في طلب العضوية مثل ألمانيا واليابان والهند والبرازيل، ناهيك عن جنوب أفريقيا أو مصر ونيجيريا لهذه الساحة، وقبِل العالم الإشارة من دون إزعاج! وحتى مطلب وقف التسلح النووي كقضية مُلحة، قد تم تجاهلها ليبقى الضغط على هذه الدولة أو تلك انتقائياً مثل حالة إيران مقابل إسرائيل... إلخ. وتجاوزت مقولات حفظ السلام هذا الخطر بالحديث عن قوة سلام تتدخل فقط في صراعات الدول الأخرى غير النووية.
وكما كانت الرسالة الأميركية رادعة على المستوى العالمي ككل بشأن "التنظيم الدولي"، فإنها جاءت "مراوغة" على المستوى الاقتصادي والتجارة الدولية. ويبدو أن تحسناً ملحوظاً في الميزان التجاري الأميركي قد جعل التجارة محور المراوغة مع أوروبا وأفريقيا على السواء. وكان الرئيس "بوش" صريحاً حين جعل "الانفتاح التجاري" هدف المرحلة بشرط إزالة الحواجز الجمركية أمام التجارة الأميركية مقابل العكس، وساعده تنشيط برنامجه التجاري في أفريقيا وفاعليته النسبية مع عدد من دول القارة ليؤكد شعاراً قديماً عن التجارة لا المساعدات، كأسلوب لتحفيز التنمية