مع الأيام الأخيرة للوجود العسكري الإسرائيلي في قطاع غزة نقلت وكالات الأنباء تقارير مؤكدة عن سرقات إسرائيلية واسعة النطاق لرمال القطاع، وأشارت مصادر إسرائيلية إلى أن مئات الشاحنات قد قامت لعدة أيام بنقل كميات كبيرة من الرمال من منطقة المنحدرات الرملية شمالي القطاع، وذكرت التقارير أن المقصود هو سرقة ما لا يقل عن مئة ألف متر مكعب من الرمال، وقدرت مصادر في السلطة الفلسطينية أن إسرائيل كانت تنقل يومياً حوالى 7200 متر مكعب من رمال القطاع.
بالعودة إلى ملف الأطماع الإسرائيلية في "رمال" غزة يتضح أن سلطات الاحتلال كانت قد قامت في السنة الماضية أيضاً بسرقة كميات كبيرة وإن كانت وتيرة السرقة –وفقاً لمصادر فلسطينية- قد زادت خلال الأشهر الأخيرة بعد إعلان عزم إسرائيل الانسحاب من القطاع من طرف واحد، بل إن مجلة "دنيا الوطن" الفلسطينية -وهي مجلة منشورة على شبكة المعلومات الدولية- قد أوضحت بتاريخ 26/20/2004 –أي منذ قرابة عام- أن الشركات الإسرائيلية تستنزف مخزون الرمال الكبير في قطاع غزة منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي، وإن كان قرار الحكومة الإسرائيلية بتطبيق خطة الفصل قد شكل نقطة تحول فارقة في هذا الصدد. نحن إذن إزاء سلوك "منهجي" بسرقة رمال غزة فما هي أهدافه؟
يجمع المحللون على الطابع الاقتصادي للسرقة الإسرائيلية، فرمال غزة تمثل بالنظر لاستخدامها في مجال البناء وصناعة الزجاج ثروة اقتصادية قدرها د. معين رجب أستاذ الاقتصاد بجامعة الأزهر بغزة في تقرير نشره موقع "إسلام أون لاين" بتاريخ 28/6/2005 بما قيمته 2 إلى2.4 مليار دولار، ومن المفارقات أن سرقة إسرائيل لرمال غزة كانت تتم في وقت يشهد فيه قطاع البناء هناك –أي في غزة- ضائقة حقيقية ناجمة عن نقص الرمال، غير أن مصادر قريبة من سلطات الاحتلال أرادت أن ترقى بالهدف من هذه السرقة فزعمت أن إخلاء الرمال من قطاع غزة قد تم لتحسين القدرات الدفاعية لإسرائيل بعد الانسحاب وإنشاء بنية تحتية جديدة. وأياً كانت جدارة هذه الحجة فإن السرقة تبقى هي السرقة.
لا تقتصر آثار هذه السرقة المفضوحة على خسارة الاقتصاد الفلسطيني المتردي فحسب، وإنما تمتد -كما أوضح د. أسامة الفرا رئيس بلدية خان يونس في بيان صحفي- إلى آثار بيئية خطيرة لا يمكن علاجها ولو بعد مرور عشرات السنين، فرمال غزة موجودة على أفضل خزانات المياه الجوفية في قطاع غزة من حيث انخفاض نسبة الملوحة، وبالتالي فإنها بمثابة المصفاة لهذه الخزانات، هذا بالإضافة إلى ما ستتركه هذه السرقة من حفر سوف تكون مكاناً لتجمع النفايات الصلبة والمياه العادمة وما يؤدي إليه ذلك من تلوث بيئي خطير، وجدير بالذكر هنا أن مصادر فلسطينية مسؤولة كشفت أن إسرائيل تعتبر غزة مقلباً لنفاياتها، وأن الشاحنات التي تنقل الرمال إلى داخل إسرائيل تعود محملة بنفايات. ومن ناحية أخرى فإن سرقة الرمال تعمل على تدمير تضاريس الساحل المتميز برماله والذي يمتلك لهذا السبب إمكانات سياحية واضحة، ناهيك عن كونه متنفساً لسكان القطاع.
تأملت طويلاً في هذا السلوك المتدني، فأن تغتصب وطناً بأكمله بحجة أنه أرض ميعاد تاريخية لك قد يعطيك –ولو زيفاً- سمات صاحب المشروع السياسي لكن سرقة الرمال لا يمكنها أن تكسبك إلا وصف اللص الرخيص. عدت بذاكرتي إلى الوراء سنوات قليلة لأستعيد وقائع مشابهة، بل مطابقة مع اختلاف تفاصيل المسروقات وإن لم تختلف طبيعة السرقة، فقد قامت إسرائيل وقبل أيام قليلة من اندحارها في الجنوب اللبناني في مايو 2000 بسرقة تربة خصبة من الأراضي اللبنانية وشحنها إلى داخل إسرائيل، وكما شوهدت الشاحنات الإسرائيلية تسرق رمال غزة شوهدت شاحنات اللصوص أيضاً وهي تنقل التربة اللبنانية إلى بساتين المستعمرات الإسرائيلية لاستصلاح الأراضي الزراعية فيها خاصة وأن تربة سهل مرجعيون التي تمت السرقة منها هي أخصب أنواع التربة في لبنان، والتي استفاد الاحتلال الإسرائيلي منها في تطوير زراعته في مستعمراته المجاورة للحدود معه. وكما اتضح أن لسرقة رمال غزة جذورها البعيدة أكد رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري في حينه أن إسرائيل خلال سنوات الاحتلال قضمت مساحة من الأراضي اللبنانية تصل إلى ملايين الأمتار، وكما حاولت سلطات الاحتلال أن تصور سرقة رمال غزة على أنها وقائع فردية قام بها "لصوص" عاديون –بل لقد شارك فيها لصوص فلسطينيون أيضاً- اضطر الجيش الإسرائيلي في حينه إلى الاعتراف إزاء الوقائع والقرائن بأن إسرائيليين نقلوا تربة زراعية من جنوب لبنان إلى مناطق الجليل داخل فلسطين المحتلة، بل وطالب بتدخل "الشرطة" لمنعهم! لإضفاء طابع غير رسمي على العمل، بمعنى أنه مسؤولية البعض الشخصية ليس إلا، على حد ما كتب فايز سارة بعنوان "هل إسرائيل دولة اللصوص؟" في جريدة البيان بتاريخ 16/11/1998. وربما كان الفارق الوحيد بين سرقة التربة في مطلع الألفية الثالثة وسرقة رمال غزة في الأيام القليلة الماضية أن الأوضاع العربية لم تكن قد بلغت ما بلغته من تردٍ، ولذلك فقد