أعود إلى الموضوع مرة أخرى، لأكمل من حيث انتهيت. كنت قد ذكرت بأن أهم الأسباب التي يقال إنها تبرر واقع أن الفضائيات الخليجية من دون خليجيين يتعلق بعدم وجود كفاءات إعلامية خليجية تتوفر لها درجة من المهنية تسمح لها بتولي جهاز إعلامي فضائي يخاطب العالم العربي، بل والعالم كله. تناولت جزءا من ذلك في المقالة السابقة. وأود هنا التوسع قليلا في هذه المسألة من خلال طرح بعض الأسئلة. ما معنى أن الخليجيين يفتقدون إلى الكفاءة الإعلامية؟ هل يعكس عدم قابلية لاكتساب هذه الكفاءة؟ أم أن هذا الافتقاد يعود بشكل أساسي إلى عدم توفر الفرصة: فرصة التدريب، والظهور، والممارسة، والتشجيع؟ يقال إن الفرصة أعطيت لبعض الخليجيين للعمل كمذيعين في بعض الفضائيات الخليجية الكبيرة. وذكر لي أكثر من مسؤول عن بعض هذه الفضائيات أن الفرصة أتيحت أمام بعض السعوديين تحديدا، لكنهم فشلوا في إثبات كفاءتهم. وأنا لا أريد أن أجادل في صحة هذا، لسبب بسيط، وهو أن فشل هذا السعودي أو ذاك أمر طبيعي. لكن هل يعني هذا تعميم حالات فردية على المجتمع ككل؟ في مقابل حالات الفشل هناك حالات نجاح سعودية وغير سعودية مثل داود الشريان (دبي)، وجابر عبيد (أبوظبي)، وتركي الدخيل (العربية)، وعلي الظفيري (الجزيرة)، وغيرهم ممن يعمل في الفضائيات المحلية؟ طبعا لا يمكن القول بأن نجاح هؤلاء الخليجيين يعود إلى "فطرتهم الخليجية" لأسباب أهمها أنه ليس هناك شيء اسمه "فطرة خليجية"، والحديث بمثل هذا المصطلحات أصلا هو انزلاق إلى حديث عنصري بغيض.
مبرر عدم كفاءة الخليجيين الإعلامية هنا هو جزء من متوالية ثقافية وسياسية أوسع. فالخليجيون يفتقدون إلى الخبراء، ولا يميلون إلى الكثير من الأعمال الفنية والمهنية، وليس لديهم كفاءات طبية، وحجمهم السكاني قليل وبالتالي لا يملكون مخزونا بشريا قادرا على توفير حاجاتهم من العمال، والموظفين، والفنيين، ومن الكوادر الأمنية والعسكرية، إلى غير ذلك من الصفات التي تبرر استمرار اعتمادهم في معيشتهم، وفي ثقافتهم وإعلامهم، بل وحتى في أمنهم الوطني على الخارج. في الوقت نفسه لابد من ملاحظة مقابلة لذلك، وتخص الخليجيين أنفسهم، وهي قابليتهم لتمرير هذه الصفات عليهم، أو ربما أنهم هم المصدر الأول لنشر مثل هذه الصفات التي يشتكون منها الآن. في كل الأحوال نحن أمام صفات اجتماعية وثقافية مكتسبة تحولت مع الوقت إلى صفات يراد لها أن تكون موروثة، ودائمة. والسبب في ذلك يعود ليس إلى من جاء من خارج الخليج للعمل وسد النقص في بدايات خطط التنمية الخليجية، بل إلى الخليجيين أنفسهم، وإلى خططهم التنموية.
إشكالية أخرى لفكرة الكفاءة في هذا السياق، وهي أنها تنطوي على فرضية تتضمن التسليم المسبق بكفاءة ومهنية القائمين على الفضائيات الخليجية، هكذا بشكل تعميمي وبثقة تعود بشكل أساسي إلى ظرف سياسي أكثر منه إلى اعتبارات مهنية. وأمام هذا التسليم والتعميم أكتفي ببعض الملاحظات: الفضائيات الإخبارية مثلا، وتحديدا "الجزيرة" و"العربية"، تستورد برامجها الوثائقية من شبكات التلفزيون الأميركية والبريطانية. أداء أغلب مذيعي نشرات الأخبار يعكس عدم إلمام بالخبر، وبالإطار السياسي لهذا الخبر، وهو ما ينكشف غالبا في حديث المذيع مع ضيوف النشرة الإخبارية، حيث غالبا ما يسيطر الضيف على الموضوع، ولا يستطيع المذيع مجاراته أو ملاحقته بما يعرف بـ"الأسئلة التعقيبية". بل كثيرا ما يفشل المذيع في طرح السؤال المرتبط بطبيعة الحدث ومناسبته. وأكثر ما يكشف تواضع حرفية مذيعي أخبار، ومقدمي برامج الفضائيات "الخليجية" هو حديثهم أحيانا مع المسؤولين الرسميين بشكل عام، بما في ذلك المسؤولين الإسرائيليين. هنا تجد أن المسؤول أكثر إلماما بالموضوع، وأكثر قدرة على الدفاع عن خطه السياسي، في حين يتكشف أن المذيع لم يحضّر للموضوع، وغير قادر على وضع المسؤول أمام مساءلة تنمُّ عن متابعة وعن مهنية لا تلين.
الملاحظة الأخرى هي أن تميز الفضائيات "الخليجية" يأتي غالبا في سياق مقارنتها مع الفضائيات العربية الرسمية، وهي فضائيات باهتة. لابد من استثناء محطة "الجزيرة" هنا لمهنيتها. ربما يعود هذا بشكل أساسي إلى أنها تعمل تحت إشراف محطة الـ"بي بي سي" البريطانية، إلى جانب أنها مهنية فنية في الغالب، خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار أن الخطاب السياسي لهذه المحطة مضطرب، ويتناقض مع الخط السياسي لحكومة قطر، مالكة المحطة (راجع المقالة السابقة).
أغرب الأسباب التي يتم إيرادها لتبرير استبعاد الخليجيين عن فضائياتهم هو القول بأن هذه الفضائيات في واقع الأمر فضائيات عربية، تخاطب العرب من المحيط إلى الخليج، وبالتالي من المستحسن إبعاد الخليجيين. لماذا؟ بما أن الخليجيين هم الذين يملكون هذه الفضائيات، ينبغي لهم ألا يظهروا في الصورة حتى لا يبدو أنهم يفرضون أنفسهم، وحتى تتوفر لهذه المحطات درجة أكبر من المصداقية في مخاطبة الرأي العام العربي. في هذا القول مغالطات خطيرة. أولها أنه يغطي ما هو مكشوف أمام الجمي