انضم أساقفة الكنيسة الإنجليكانية البريطانية إلى المدرسة الاعتذارية الأخلاقية عندما قررت لجنة خاصة برئاسة رئيس أساقفة أكسفورد ريتشارد هاريس الاعتذار من المسلمين عن حرب العراق تصحيحاً للخطأ الذي ارتكبته الحكومة البريطانية. وتضم هذه المدرسة الاعتذارية دولاً ومرجعيات روحية.
ففي ذكرى مرور نصف قرن على نهاية الحرب العالمية الثانية، قدم رئيس الوزراء الياباني "تومييتشي موراياما" أول اعتذار صريح عما ارتكبته القوات اليابانية خلال الحرب. وجاء في اعتذاره: "إن اليابان باتباعها سياسة وطنية خاطئة التزمت طريق الحرب وتسببت من خلال النظام الاستعماري والعدوان في أضرار هائلة وفي معاناة شعوب دول كثيرة"... "إن علينا أن ننظر إلى الماضي لنتعلم منه دروس التاريخ".
ولعل أول درس عبّر عنه الرئيس الياباني يتمثل في إعلان "الاعتذار من القلب".
سبق هذا الإعلان التاريخي، مبادرة مهدت لهذا التحول عندما أعربت اليابان عن أسفها للصين بسبب المجازر التي ارتكبتها إبان الحروب اليابانية- الصينية التي جرت قبل الحرب العالمية الثانية وخلالها. وعندما قام الإمبراطور الياباني بزيارة بكين في أكتوبر 1992 ردد علناً هذه المشاعر مبدياً استعداد بلاده للتعويض على الصين من خلال تمويل عدد من مشاريع التنمية التي تقوم بها.
كذلك أعربت اليابان عن أسفها لدول أخرى في جنوب شرق آسيا وخصوصاً للفيليبين وكوريا بسبب استخدام نساء فليبينيات وكوريات خلال الحرب العالمية الثانية للترفيه جنسياً عن الجنود اليابانيين. وتعهدت بالتعويض على عائلات آلاف النسوة بمبالغ مالية كبيرة.
جاء هذا الموقف الياباني في إطار توجه عالمي جريء وواضح استهدف إعادة رسم خريطة العلاقات الإنسانية، وتصحيح الذاكرة التاريخية للعديد من الأمم والشعوب انطلاقاً من تضميد الجراح التي خلّفتها أحداث سابقة.
فالولايات المتحدة اعتذرت لمواطنيها الذين يتحدرون من أصل ياباني بسبب سوء معاملتهم إثر الهجوم الياباني على بيرل هاربر في عام 1941. فقد عاملت السلطات الأميركية في ذلك الوقت كل أميركي من أصل ياباني كأنه خائن للولايات المتحدة. وعلى أساس هذا الاتهام الجماعي، جمع المواطنون الأميركيون من أصل ياباني في معسكرات اعتقال وحجر عليهم فيها إلى أن انتهت الحرب!!.. وبسبب ما لحق بهؤلاء من معاناة نفسية ومعنوية ومادية، فقد اعتذرت منهم حكومة الولايات المتحدة وعوّضت عليهم بعد انتهاء الحرب.
واعتذرت روسيا لليابان بسبب الوحشية التي استخدمت في معاملة الأسرى اليابانيين أثناء الحرب العالمية الثانية. فالروس بادروا إلى قتل جميع الأسرى في الجبهة الشرقية الأمر الذي يتناقض مع المواثيق الدولية التي تحدد كيفية التعامل مع أسرى الحرب. وكان الاعتذار الروسي مدخلاً لإعادة النظر في مصير الجزر اليابانية التي احتلتها روسيا في المرحلة الأخيرة من الحرب.
واعتذرت ألمانيا للعالم عن الجرائم التي ارتكبتها النازية- الهتلرية. وخصّت بالاعتذار اليهود الذين قدمت لهم تعويضات مالية ضخمة كان لها أثر كبير في بناء الاقتصاد الإسرائيلي.
أما الجرائم الجماعية التي وقعت بعد ذلك فإنها بانتظار أن يقدم مرتكبوها اعتذاراتهم: من فلسطين ولبنان حيث ارتكبت إسرائيل سلسلة من المجازر، إلى البوسنة والهرسك حيث مارس الصرب أبشع مجازر عرفتها أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، إلى رواندا التي ذهب ضحيتها حوالى المليون إنسان في مجزرة لم تستمر أكثر من شهر واحد،
إلى الجزائر التي قدّمت مليون شهيد للتخلّص من الاحتلال الاستيطاني الفرنسي.
ولاشك في أن الاعتذار الأول يجب أن يقدَّم إلى الأفارقة الذين عانوا من الاسترقاق والاستعباد ثم من الاستعمار النهبي الذي امتصّ أجيالاً منهم، كما امتصّ خيراتهم الطبيعية.
إن الجرائم التي ترتكبها دول هي الجرائم التي يعتذر مرتكبوها بعد تغيير الأنظمة وتبدل الظروف. أما الجرائم التي يرتكبها أفراد أو منظمات إرهابية، فإنها تبقى دون اعتذار وربما يموت الاعتذار بموت مرتكبيها أنفسهم.
على أن أهم الاعتذارات هي التي تنطلق من إيمان ديني والتي تعلنها مرجعية دينية. فقبل أكثر من ثلاثين عاماً، اعتذر الفاتيكان من اليهود بسبب تحميلهم مسؤولية صلب السيد المسيح، ففي عام 1581 أصدر البابا غريغوري الثالث عشر حكماً بإدانة اليهود نصّ على "أن خطيئة الشعب الذي رفض المسيح وعذّبه تزداد جيلاً بعد جيل. وتحكم على كل فرد من أفراده بالعبودية الدائمة".
ثم اعتذر لهم ثانية في عام 1993 بسبب عدم وقوفه ضد المجازر التي ارتكبتها النازية، حتى أن البابا الراحل يوحنا بولس الثاني وافق في عام 1992 على وقف بناء كنيسة كاثوليكية قرب معسكر أوشفيتز في بولونيا لأن اليهود اعتبروا بناء الكنيسة هناك إجراء مؤذياً لأرواح اليهود الذين قتلوا في المعسكر!
ولم يتردد الفاتيكان في الاعتذار إلى الشعوب الأصلية في دول أميركا اللاتينية التي تعرضت للاضطهاد وأعمال السخرة، وحتى إلى الإبادة، خلال الحملات الاستعمارية البرتغالية والإسبا