من يتابع تطور الأحداث المتفاقمة داخل العراق وما يعانيه شعبه من قتل وتشريد وافتقاد الحد الأدنى من متطلبات الحياة، يجد أن الاحتلال الأميركي قد استبدل شعار "النفط مقابل الغذاء" بشعار جديد معدل وغير مسبوق ولكنه يتفق مع الأهداف الأميركية في العراق هو "النفط مقابل التقسيم". فبعد مرور نحو ثلاثين شهراً على بدء الحرب الأميركية على العراق، أصبح لا ينطلي على أحد أن هذه الحرب قد جرت من أجل عيون العراقيين وتحريرهم من قبضة نظام الشيطان صدام حسين، وإقامة نظام ديمقراطي غير مسبوق في منطقة الشرق الأوسط، لإعطاء المثل وتعميم التجربة على باقي دول المنطقة، ذلك لأن مصالح واشنطن وحدها وفرض الهيمنة الأميركية الكونية هي التي تحكم تحركات سياستها الخارجية من جانب، وحاجة إدارة بوش الصغير إلى تحصيل فاتورة الخسائر الأميركية من حربها على الإرهاب واستعادة جزء من مصروفاتها الدفاعية من جانب آخر.
وفي العراق "نفط رخيص" و"بشر ذو تركيبة عرقية وطائفية متباينة" و"نظام شيطاني حاكم"، فإذا تم القضاء على النظام "الشيطاني" الحاكم وأزيل بغير رجعة، وانشغل "البشر" في تصفية حسابات العداء العرقي والطائفي التاريخي العميق الذي بثه نظام الشيطان عبر عقود من الزمن، وازدادت وتيرة الفرقة، وتم فتح الباب على مصراعيه أمام الصراعات العرقية، ربما يقود ذلك إلى تفتيت العراق وانقسامه وتقسيمه، فتستطيع واشنطن أن تنفرد بـ"نفطه" وتفرض سيطرتها عليه، تلك هي المعادلة المركبة للوضع السائد في العراق الآن.
ومن الواضح للعيان أن العراقيين وغيرهم لم يخذلوا التوقعات الأميركية ولم يتوانوا أو يقصروا في انتهاز الفرصة السانحة وانطلقوا في مهامهم الانتقامية، منذ سقوط بغداد وحتى الآن، والأمر لا يحتاج إلى إذكاء نار الفتنة والانتقام الطائفي والعرقي والعنصري والبعثي بين موزاييك الشعب العراقي، لأنها موجودة بالفعل، زرعها صدام حسين وزبانيته على مدى عقود في ظل سياسة "فرق تسد"، وآن أوان جني حصاد الحقد والكراهية.
الكل له حساباته الخاصة ومصالحه الذاتية، يسعى لفرضها بغض النظر عمن سيدفع الثمن، الذي دفعه البسطاء والوطنيون العراقيون من أمنهم واستقرارهم، وضاع الأمن والأمان، إلا النفط العراقي الذي وقع في أيدٍ "أمينة"، و"أمينة" هنا هي أيدي عسكر بوش الصغير وأصدقائه وحلفائه والموالين له من العراقيين الذين لا هم لهم سوى الحصول على ثمن الولاء.
في الماضي تحول شعار "النفط مقابل الغذاء" إلى "النفظ مقابل الرشاوى"، واستغل صدام حسين الظروف ليحقق نزواته ويبني قصوره ويزيد من قوة حراسته ويشتري مناصريه من عوائد النفط، وقد وعت واشنطن الدرس من فضيحة "النفط مقابل الغذاء"، ووجدت الفرصة في الحصول على النفط العراقي مقابل "الفوضي"، ولكنها فوضى تسيطر أميركا عليها، بمعنى أن تعم الفوضى أرجاء العراق كله ما عدا مناطق النفط، لأن ذلك يضمن إشغال الشعب العراقي بعيداً عما تريده واشنطن.
وحتى نفهم الوضع دعونا نراجع القصة من أولها، لقد كان العراق مصدراً رئيساً لتهديد مصالح كل من أوروبا وإسرائيل في الخليج الذي يعتبر مصدر النفط الرئيس لأوروبا؛ في حين أن أميركا تحصل على 10% من نفطها فقط من السعودية، و6% من العراق، كما أن الأسلحة الاستراتيجية التي كان يملكها العراق تهدد أمن إسرائيل وجنوب أوروبا، فكان الأجدى أن تسارع أوروبا أو إسرائيل بتحجيم القدرة العسكرية العراقية، والعمل على إسقاط نظامه الراديكالي الذي يهدد مصالحهم، في ظل امتلاكهم القدرة على ذلك، بدلاً من الوقوف موقف "المعارض المتفرج" للعمل الأميركي- البريطاني، وهو الأمر الذي دفع بوش الصغير وإدارته لاستغلال الفرصة السانحة لفرض سطوتهم على العالم وخاصة "أوروبا القديمة" من خلال السيطرة على مصالحها الاقتصادية، لأن من يهيمن على نفط الخليج يسيطر على الاقتصاد الأوروبي والصيني وربما الياباني أيضاً، ومن يسيطر على اقتصاد أوروبا والصين يسيطر على أمن هذه الدول بمفهومه الشامل ومن ثم يستطيع أن يفرض مصالحه وفق إرادته، وسواء كان العراق شيعياً أو كردياً أو سنياً، وسواء كان الخليج شيعياً أو سنياً، أو تفتت بلدانه إلى دويلات عرقية وطائفية، فإن السيطرة على نفطه ستظل حلم الاستراتيجية الكونية للامبراطورية الأميركية العظمى.
لم يعد السؤال المطروح الآن: لماذا جاءت أميركا بخيولها وخيلائها إلى العراق؟ فقد ضاع أوانه وبات أمراً واقعاً، ولكن السؤال الأهم: ماذا ستفعل أميركا بالعراق وفي العراق؟
الوضع في العراق يشير بكل تأكيد إلى وجود الأمن والأمان في مناطق حقول النفط، بينما الوضع في باقي العراق يعج في فوضى عارمة، لذا لم تكن مساندة أميركا لنص الدستور العراقي على الحكم الذاتي لكردستان من فراغ، وعلى انقسام العراق إلى عرب وأكراد محض صدفة، فرؤية واشنطن أن يصبح العراق في نهاية الأمر وفي ظل أفضل السيناريوهات وأحسن التوقعات منقسماً إلى إمارة كردية في الشمال تحت الرعاية الأميركية- التركية اللصيقة المباشرة، وإمارة شيعية في الجنوب تحت