عندما كنت مستغرقاً في الموضوع الذي تحدثت عنه في المقال السابق، موضوع أطروحة الطالب الياباني الذي حدده بما أسماه: "الظاهرة الغريبة في ثقافة حوض البحر الأبيض المتوسط" وهي حسب تعبيره "ذلك الفصل اللافت للنظر بين النفس والجسد في هذه الثقافة"، بدأت أشعر بأن تجربتي، هذه المحدودة، مع اليابان أخذت تفرض عليَّ نوعاً من "وجهة النظر" حول علاقة عالم الشرق الأقصى بعالم البحر الأبيض المتوسط، شماله وجنوبه. ثم –بدون سابق إنذار- ارتسمت في ذهني، وربما بين شفتي أيضاً، ابتسامة ساخرة من نظرية هنتينغتون التي تفسر التاريخ، الماضي منه والحاضر والمستقبل، بما أسماه "صراع الحضارات"، صراع طرفاه: الكونفوشية والإسلام من جهة، والغرب من جهة أخرى. قلت في نفسي ها هي الأدلة تترى لتشهد على أن عالم الكونفوشية والبوذية عالم واحد ومكانه الشرق الأقصى، وأن عالم الإسلام والغرب عالم واحد ومكانه حوض البحر الأبيض المتوسط، وأن مجال "صراع الحضارات" –ونحن لا نسلم بهذه المقولة ولذلك نضع مكانها عبارة "تداخل الحضارات"- ليس بين الغرب من جهة، والكونفوشية والإسلام من جهة أخرى، كما تخيل هنتينغتون، بل هو الآن، كما في الماضي، بين الصين واليابان من جهة، وبين العالم العربي/ الإسلامي والغرب -بما فيه الولايات المتحدة الأميركية- من جهة أخرى. وإذا كان هذا التداخل يشهد من حين لآخر أنواعاً من الاحتكاكات ترجع إلى صراع بين المصالح، يشتد حينا ويخفت حينا، فإنها كانت دائما وما تزال –على الأقل على المستوى الثقافي- تعكس ظاهرة تاريخية وهي الاختلاف على مستوى الفضاء الحضاري الذي تنتمي إليه الثقافة.
ولكن! ماذا نعني هنا بـ"الفضاء الحضاري"؟
نقرأ في معاجم اللغة العربية ما يلي: "الـحَِضَارَةُ (بالفتح والكسر) : الإِقامة فـي الـحَضَرِ"، وهي ضد البداوة. وهما نمطان من "العمران البشري" مختلفان. الأول يتصف بـ"الرقة"، والثاني بـ"الخشونة". وقد اشتهر ابن خلدون بمقدمته التي درس فيها هذين النمطين من العمران دراسة عميقة مستفيضة. أما "الثقافة" فلا تخرج المعاجم العربية في تعريفها عن معنى الحذق وسرعة التعلم، وأيضا إدراك الشيء والإمساك به. أما ربط الثقافة بالعلم والمعرفة واتساع الأفق إلخ، فذلك ما لم يحدث إلا في العصر الحديث حين ترجمت كلمة culture الفرنسية بـ"الثقافة" وحصر معناها في "شؤون الفكر ومنتجاته"، فصار المثقف يعبر عن مضمون كلمة intellectuel الفرنسية المشتقة من intellect بمعنى "الفهم، الفكر، العقل". ومن هنا كانت "الحضارة" أعم من "الثقافة"، وكانت الثقافة مظهراً من مظاهر الحضارة. وهذا المعنى نجده عند ابن خلدون الذي يعتبر "الحضارة هي سر العلم والصنائع". فالعلم لا يكون إلا في "الأمصار الموفورة الحضارة"، وهذا ما حصل للعرب عندما انتقل بهم الإسلام من البداوة إلى الحضارة.
أما لفظ "فضاء" الذي نستعمله هنا فيحتاج إلى شيء من الشرح، ذلك أن معناه في اللغة العربية لا يعدو قولهم الفضاء هو "المكان الواسع"... وهكذا فعندما نترجم كلمة espace إلى العربية فالمعنى الذي تحتمله هذه اللفظة لغويا هو "المحل" lieu. أما عندما نضع هذه الكلمة كمقابل لـ"الزمان"، فاللفظ المناسب هو "المكان". وعبارة "المكان والزمان" لا تنقل بالضبط مقابلها في اللغات الأجنبية l'espace et le temps. فـ"المكان" في القواميس العربية هو كما قلنا: "الـموضع" و"المحل". في حين أن معنى espace هنا أقرب إلى ما يستفاد من كلمة "المكان المطلق" بلغة الفيلسوف الألماني كانط، وهي أقرب إلى مفهوم الخلاء le vide. ولكن "الخلاء" في اللغة العربية هو: المكان "إِذا لـم يكن فـيه أَحد ولا شيء فـيه". "والـخَلاءُ من الأَرض: قَرارٌ خالٍ..."، ولا شيء من هذا كله يعبر عن مفهوم espace سواء تعلق الأمر بمعناه العام كقولنا "الفضاء الكوني" أو الكوسمولوجي (قارن: غزو الفضاء) أو بمعناه المقيد بمجال خاص: الفضاء الجغرافي، الفضاء الاقتصادي، الفضاء الرياضي (من الرياضيات)... وأيضا الفضاء الذّهني espace mental. فبهذا المعنى المقيد نستعمل هنا كلمة "الفضاء" في عبارة: "الفضاء الحضاري للثقافة العربية". وقد فضلنا هذه اللفظة على ألفاظ أخرى مثل المجال والحقل (قارن: المجال أو الحقل المغناطيسي)، لأنه –أعني "الفضاء"- أوسع وأرحب، وبالتالي أنسب. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فبما أننا نعتبر "الثقافة" مظهرا من مظاهر الحضارة، مظهرها الروحي الفكري الفني، فقد فضلنا توظيف مفهوم النمط للتعبير عن "النوع" داخل "جنس" الثقافة (كالفرس داخل جنس الحيوان). وبهذا المعنى نتحدث عن أنماط ثقافية، وليس عن أنواع.
كانت هذه التحديدات ضرورية لأننا سنتحدث عن شيئين مختلفين بكلمة واحدة، أو عن شيء واحد بكلمتين، لو مضينا نقطع أشواطاً في توظيف مفهوم "الفضاء الحضاري" بدون تحديد.
أما الآن فأحسب أنه يمكننا الكلام عن فضاء حضاري خاص بالشرق الأقصى وفضاء حضاري خاص بالبحر الأبيض المتوسط، -على الأقل بناء على الفارق الذي لفت الطالب الياباني اهتمامنا إلي