أثار موضوع المقال الماضي عما قد يكون "إيجابياً - عربياً وإسلامياً" عقب الهجوم على نيويورك وواشنطن في سبتمبر 2001، بعض التساؤلات وحتى الاستغراب. وفي الواقع فإن هذا منطقي في ظاهره، فالإعلام العالمي -والغربي بالذات- يُبرز كل ما هو سلبي عن تاريخ الإسلام وحضارة العرب. كما أن الكثيرين من المغتربين العرب المتمسكين بهويتهم أو الممارسين لشعائرهم الإسلامية تتم ملاحقتهم وحتى محاكمتهم، والحكم على مراسل قناة "الجزيرة" في أسبانيا "تيسير علوني" بالسجن سبع سنوات رغم تبرئته من الضلوع في منظمة "القاعدة" يؤكد للبعض هذه الملاحقة، بل إن أخبار وأمثلة هذا التحيز أصبحت من التكرار والروتينية بحيث إن أجهزة الإعلام لا تبرزها إلا لماماً.
كل هذا صحيح ولا يمكن أن اختلف معه، ولكن هذا لا يفند مقولتي الأساسية في المقال السابق والخاصة بوجود اهتمام عالمي بأحوال العرب والمسلمين، بل هناك شغف شعبي وفضول عالمي، وبالتالي هناك بيئة عالمية تتعطش لمعرفة المزيد من أمورنا. استغل الخصوم هذا الاهتمام والشغف وقاموا بتغذيته بكل ما هو سلبي، بينما اقتصر معظم العرب والمسلمين على رؤية هذا التحيز ثم شعروا بالحزن والاكتئاب حياله، أي أننا لم ننظر إلى هذا التعطش للمعرفة عن أمورنا ثم نطور استراتيجية منظمة -من جانب الأفراد كما من جانب المنظمات العربية والإسلامية- لاستغلاله على أمثل وجه. وللبرهنة على كلامي هذا سأذكر ما حدث خلال شهر فقط من تاريخ كتابة هذا المقال، وخاصة على مستوى المؤتمرات الدولية.
ولنبدأ بالمؤتمر العالمي الأول للدراسات الدولية الذي عُقد بمدينة اسطنبول التركية في الأسبوع الأخير من أغسطس، وقد حظي هذا المؤتمر باهتمام كبير. فبالرغم من تعدد مؤتمرات الدراسات الدولية على مر السنين، إلا أن معظمها يُعقد في الولايات المتحدة أو كندا، كما أن مقر منظمة الدراسات الدولية لا يزال في الولايات المتحدة منذ إنشائها في الستينيات من القرن الماضي، ولذلك كان مؤتمر اسطنبول عالمياً بمعنى الكلمة في تنظيمه وفي نوعية المشاركين فيه.
تضمنت أعمال هذا المؤتمر حوالى 267 حلقة بحثية ونقاشية بالإضافة إلى لقاء خاص مع رئيس الجمهورية التركية السابق، سليمان ديميريل، وكذلك لقاء آخر مع وزير الخارجية التركي عبدالله جول. وتصفح برنامج المؤتمر التفصيلي يبين الزيادة الملحوظة في الموضوعات التي تهم منطقة الشرق الأوسط: من الإسلام والعروبة، إلى موضوعي العراق والصراع الإسرائيلي- الفلسطيني إلى الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل... حتى في الموضوعات التي قد تبدو عامة، كان الشرق الأوسط وأحواله حاضراً، سواء كان الحديث عن السياسة الخارجية الأميركية، أو تطور الاتحاد الأوروبي ومشكلة الهجرة والأقليات أو العلاقات الاقتصادية الدولية، حيث مشكلة الطاقة وارتفاع أسعار البترول، موضوعات الهوية والمجتمع المدني ودور الدين في كل منهما... التطور المهم هو أنه حتى متخصصو النظرية الدولية لم يستطيعوا تجنب تحليل الشرق الأوسط حتى ولو لم يكونوا عالمين بأموره. كذلك كان الحال بالمهتمين بنظرية الدولة، التحول الديمقراطي، والإصلاح...
أما عن المؤتمر الدولي الثاني، فقد انعقد في بريطانيا وفي أروقة جامعة درهام العريقة، وهي جامعة صغيرة نسبياً حيث يبلغ مجمل عدد طلابها ما يقرب من 16 ألف طالب وطالبة، ولكنها تحتوي على معهد ذائع الصيت لدراسات الشرق الأوسط والدراسات الإسلامية. وبالتالي يوجد عدد كبير من الباحثين الذين يعدون درجة الدكتوراه ويتخصصون في الشؤون العربية والإسلامية. كان هذا المؤتمر أقل عدداً بالطبع، ولكنه كان أكثر تخصصاً حيث ركز على مدى يومي 8 و9 سبتمبر الحالي على موضوع "الإصلاح في منطقة الشرق الأوسط، وخاصة في دول الخليج". رغم صغر عدد المتحدثين، فإن نوعيتهم كانت مرتفعة جداً وراقية، من متخصصين جاءوا من منطقة الخليج نفسها إلى بعض الوزراء السابقين وقادة الرأي في بريطانيا، إلى بعض أعضاء الأرستقراطية البريطانية التي لها خبرة طويلة سابقة في إدارة شؤون الخليج أثناء وجود بريطانيا هناك، إلى بعض كبار المتخصصين الأميركيين من الجامعات ومراكز البحث الشهيرة وذات النفوذ. كما كان الحضور متميزاً أيضاً مثل عميد السلك الدبلوماسي العربي في بريطانيا وكذلك السفيرة الأميركية السابقة في قطر التي انتقلت الآن إلى لندن.
المقولة الرئيسية التي يجب تأكيدها إذن، هي أن الأجزاء الكبيرة من العالم يزداد اهتمامها يوماً بعد يوم بمعرفة أحوالنا، وهذه فرصة ثمينة لا يجوز تركها للخصوم بل يجب استغلالها، فالعالم ينصت لما نود أن نقوله.