ومثله مثل بقية المؤتمرات ستدور في خارج جلساته مسامرات المشاركين وتبادلهم للنكات والأحاديث التي ربما يكون بعضهم قد بدأها منذ الدورة السابقة لاجتماعات المنظمة الدولية·غير أن ما يتوقع التطرق إليه سيكون أكبر شأنا لتعلقه بموت وحياة ومصائر شعوب بأكملها في شتى أنحاء دول العالم الثالث الفقير· فهناك عدد متزايد من الأميركيين يعلم أن للعولمة مساوئها وعيوبها فيما يتعلق بتأثيرها على معدلات البطالة وحجم الوظائف التي خسرها الأميركيون بسبب انفتاح سوق العمل على العمالة الدولية الرخيصة· إلا أن القليل من الأميركيين يدركون المساوئ الأخرى للعولمة، سيما تأثيرها السالب والمدمر على حياة الملايين من فقراء العالم الثالث بسبب السياسات الاقتصادية التي تنتهجها بلادهم تجاه هذه الشعوب· فليس هناك عدد كبير من المواطنين الأميركيين يعون مدى خطورة سياسات بلادهم الاقتصادية على هذه الشعوب، خاصة مخاطر سياسات الدعم الزراعي التي تنتهجها الإدارة· فالشاهد أن أكثر تلك السياسات دمارا هي السياسات الداخلية التي تتخذ صيغة الدعم الزراعي· ففي العام الماضي سنت أميركا تشريعا زراعيا جديدا يقدر أن تبلغ تكلفة تطبيقه حوالى 190 مليار دولار على رغم أن معدل دورته يبقى ثابتاً كما هو· وربما نستطيع أن نفهم فيما إذا قرر العم سام تقديم الدعم المالي النقدي للمزارعين الأميركيين بمن فيهم المليونيرات الأثرياء وكبريات الشركات والمزارع الاستثمارية· غير أن البذخ الذي ينص عليه ذلك القانون الجديد هو أكثر من ذلك وأشد ضررا بمصالح وحياة الشعوب الفقيرة· فالقانون المذكور يهدف إلى تمويل المزارعين الأميركيين وتمكينهم من إنتاج ما يفوق حاجة البلاد من المنتجات الزراعية، بغية تصدير الفائض الزراعي المدعوم للأسواق الخارجية وإغراق العالم بتلك المنتجات· وهذا يعني نظريا وعمليا خفض أسعار منتجات دول العالم الثالث من هذه المحاصيل وتبخيسها· وفقا لهذه السياسة لنأخذ بزراعة وإنتاج القطن مثالا عمليا· فالمزارع الأميركي لن يتعين عليه الجوع حتى الموت إن لم يتمكن من إنتاج القطن بكميات تجارية محليا، لأنه سيجد ما يعوض به عن محصول القطن· أما في دول أخرى تعتمد فيها الاقتصادات المحلية وحياة الناس والمزارعين أنفسهم على إنتاج هذا المحصول النقدي، فسوف يتعين على المزارع والمجتمع ككل أن يتضور جوعا حتى الموت إن لم يتمكن من إنتاج هذه السلعة المهمة الاستراتيجية· ودونك من هذه الدول بوركينا فاسو وتشاد ومالي في إفريقيا· فبتعابير أبسط مواطني هذه الدول وأقلهم حظوة بالتعليم يقول هؤلاء إن السياسات الزراعية التي تنتهجها أميركا تحكم عليهم مباشرة بالموت جوعا وتعلق رقابهم على حبل المشنقة· ولما كان الأمر كذلك فقد وجهت سؤالا مباشرا للسيد روبرت زوليك الممثل التجاري الخاص للولايات المتحدة الأميركية في مؤتمر صحفي كان قد عقده: كيف لواشنطن أن تبرر سياساتها الزراعية هذه التي تهدف إلى حماية مزارعيها المحليين في ذات الوقت الذي تطالب فيه الآخرين بالانفتاح ورفع القيود أمام تدفق التجارة العالمية؟ ووجهت إليه السؤال الأهم المرتبط بسابقه : كيف للعالم أن ينظر إلى بلادنا باعتبارها دولة خيرة، في الوقت الذي ننفق فيه مليارات الدولارات سنويا بقصد إفقار الشعوب الأخرى وتجويعها؟ صحيح أن زوليك يعد أحد أكثر نجوم الإدارة الأميركية بريقا وشفافية، إلا أن إجابة السؤال تنطوي على صعوبة كامنة فيه وحرجا لا يفيد في إزالة غيمته البريق الشخصي· فالواقع أننا ندعي الترويج لانفتاح التجارة العالمية وتحريرها في الوقت الذي تمارس فيه بلادنا ما يمكن الاصطلاح عليه بسياسة الاشتراكية الزراعية ! وإذا كانت بعض شعوب العالم الثالث قد رحبت من قبل بالاشتراكية واحتضنتها، فمتى سيأتي اليوم الذي ترفض فيه الولايات المتحدة اشتراكيتها الزراعية المطبقة الآن؟ الإجابة القصيرة التي لا غموض ولا لبس فيها هي أن هذا اليوم ليس بقريب البتة ولا علامة له في الأفق· وعليه فليس أمام زوليك إلا أن يصارع ما بين الصخرة الصلبة الصماء، ومحاولة بيع المستحيل· فالصخرة الصماء هي السياسات التجارية الوقائية التي تنتهجها أميركا وتوثر بها مزارعيها ومصالحها الخاصة الضيقة على مصالح الآخرين· أما السلعة المستحيلة فتتمثل في محاولة إقناعنا شعوب العالم الفقير بأننا مثلهم تماما ولسنا بأفضل منهم بأي حال حتى وإن كنا نخنقهم ونلف حبال الموت حول أعناقهم· مداراة وتحايلا على هذا الحرج أجابني زوليك بأنه يتعين على أميركا نظريا على الأقل أن تلتزم بخفض سياساتها التفضيلية لمزارعيها على المدى البعيد· ولكننا على مستوى الواقع العملي سنواصل البحث والتحري عن قتلة الشعوب الحقيقيين · أشار زوليك إلى عدد من برامج المساعدات التي تستطيع أميركا بواسطتها التخفيف من وطأة هذه السياسات الزراعية المنتهجة على شعوب العالم الثالث· ولكن السؤال هو: كم تعادل حفنة المساعدات هذه مقابل مليارات الدولارات التي نصر على إنفاقها على أثرياء مزارعينا هنا؟ أليس هذا ذرا صريحا لرماد ال