قصد جلجامش ورفيقه انكيدو معبد المدينة حيث تقيم الآلهة ننسون أم جلجامش لتبارك له ورفيقه مسعاهما للسفر إلى غابة الأرز البعيدة لقتل الوحش خمبابا الذي ملأ اسمه الدنيا رعبا· وقالت الأم الملتاعة وهي تحرق البخور مخاطبة الإله شمس:
علام أعطيت ولدي جلجامش قلباً مضطرباً لا يستقر
والآن وقد حثثته فاعتزم سفراً بعيداً إلى موطن خمبابا
فإنه سيلاقي نزالاً لا يعرف عاقبته
ويسير في طريق لا يعرف مسالكها
فحتى اليوم الذي يذهب فيه ويعود
وحتى يبلغ غابة الأرز
ويقتل خمبابا
ويمحو من على الأرض كل شر تمقته
عسى أن توكل به حراس الليل والكواكب وأباك الإله سين
حينما تحتجب أنت في المساء ·
اجتزئ هذا المقطع من تلك الملحمة الخالدة خلود موضوعها من مقال كتبه فاضل عبدالواحد علي، من كلية الآداب جامعة بغداد، نشر في مجلة عالم الفكر المجلد السادس العدد الأول ·1985 ويبدو أن الحديث عن الملك السومري الأسطورة سادس ملوك سلالة الوركاء، والذي حكم في حدود 2650 قبل الميلاد له مناسبته، ونحن نتابع المحنة العراقية أو الخلاص العراقي، انظر للموضوع كما شئت· فجلجامش ورفيقه انكيدو كما تقدمهما الملحمة، كانا في سعي دائم وتحدٍ حقيقي لكل الأخطار والصعاب من أجل الوصول إلى سر الخلود· ونجد في الملحمة ذلك الإصرار العجيب الذي يبديه جلجامش من أجل تغيير مصيره الإنساني المحتوم عن طريق معرفة سر الخلود من رجل الطوفان· ورغم كل محاولات جلجامش ورفيقه انكيدو إلا أن مساعيهما تبوء بالفشل وتأتي نهاية الملحمة محزنة مخيبة لآمال جلجامش وبني البشر قاطبة في الحصول على سر الخلود على حد تعبير الدكتور فاضل·
خمبابا لم يكن إلا رمزاً لتحطيم حلم الإنسان في الخلود الأبدي، وإرسال رسالة إلى بني البشر، إن الخلود ما هو إلا شكل رمزي لما يمكن أن يتركه الإنسان من أعمال تخلد ذكراه، وإن مصيره كمخلوق ضعيف إلى زوال بعد أن يغدو طعاماً للدود· وهكذا تحول موت انكيدو هاجساً ليس لجلجامش فقط ولكن لكل بني البشر، إذ غدا شبح الموت يلاحقه وصورة الدود وهو ينهش وجه صديقه تؤجج في نفسه مشاعر الموت المحتوم وإنه لا محالة مقهور أمامه·
يقهر جلجامش خمبابا، ويقهر الموت انكيدو، ويبقى سر الخلود مرهوناً بقدرة البشر على التحرك في دائرة الفعل الإنساني لا الخوارق التي اختصت بها الآلهة وفق الأساطير·
يقول خبير عسكري ومحلل سياسي عربي: إن سياسة الولايات المتحدة الأميركية في محاربة، واجتثاث جذور الإرهاب الضاربة في عمق أيديولوجية الجماعات التي تتخذ من الإسلام غطاء شرعياً لشرعنة أفعالها، التي غالباً ما تؤدي إلى ازهاق الأرواح وترويع الآمنين، وتلطيخ ما تبقى من فكرة التسامح الإسلامية بدماء الأبرياء على إسفلت الأرصفة وأمام عدسات القنوات الفضائية التي أصبحت تتكسب إخبارياً من بيع أشلاء الأجساد وبقايا العظام لمشاهدين أصيبوا بسادية مشاهدة منظر الدم صباح مساء دون أن يرف لهم جفن، فلا عويل الأمهات النائحات ولا صراخ الأرامل والأيتام قادر على إرسال رسالة إلى إنسان القرن الـ 21 الرقمي، بعد أن أصبح الدمار الشامل لقيم التعايش غاية، وغدا القتل مبرراً ومباحاً لمجرد الاختلاف أو لمجرد فرض دين أو مذهب أو رؤية على الآخر، عندها تسقط وبدويّ مروع كل أكذوبات الحريات والرأي والرأي الآخر·
يؤكد الخبير أن نجاح أميركا في أفغانستان كان واضحاً ومؤثراً رغم أن النتائج لا يمكن أن نستشعرها عن بعد، ولكنها تتعلق بمجمل الحياة اليومية للإنسان الأفغاني، وخاصة المرأة الأفغانية التي أذاقها نظام طالبان صنوفاً من العذاب والقهر والقمع تحت ذريعة تطبيق الشريعة الإسلامية· والحديث عن مفارقات وتناقضات تفاصيل الحياة اليومية بين العيش تحت حكم طالبان واليوم، مؤشر بل دليل وفق رواية الخبير الاستراتيجي على نجاح الحملة الأميركية في اجتثاث فكر متخلف منغلق يؤمن بالعنف وسفك الدماء واحتضان الموتورين وتدريبهم وإرسالهم قنابل موقوتة وأحزمة ناسفة وأجساداً مفخخة لإزهاق الأرواح وتشويه صورة الإسلام· ويواصل الخبير مؤكداً أن البحث عن نتائج سريعة بعد انقشاع غبار المعركة عن ساحة الصراع في العراق ربما يكون منزلقاء خطراً يجب ألا يراهن عليه الإخوة في بغداد· ويجب ألا يراهن عليه الآخرون عرباً أو غيرهم، فالتركيب الفسيفسائي للمجتمع العراقي بكل ألوان الطيف السياسي والمذهبي فيه، وتوزع الولاءات بين العشائر والمذاهب والأفكار، وتاريخ طويل من القهر والقمع والأدلجة الفكرية، وتاريخ طويل من التربية الحزبية تحت آلة قمع رهيبة لا شك أنها أنتجت أجيالاً من المرتابين والخائفين· أجيال لا زالت تعتقد بإمكانية عودة النظام وإمكانية عودة رموزه إلى ممارسة دور سياسي وقمعي· أجيال سلبت منها كل حقوق الممارسة في إبداء الرأي أو التصريح بكلمة في ظل نظام شمولي اعتمد على فكرة الترغيب والترهيب واستثمر كل فكر مريض لإنتاج وسائل قمع غدت سبة في تاريخ البشرية· ويردف الخبير إن مقولة فشل الأميركيين في العراق تحتاج إلى مراجعة واعية وصادقة من قبل الإخوة في بغداد و