من المعروف في تاريخ الديانات وخاصة المسيحية منها أن عقيدة التثليث لم تظهر إلا بعد وفاة السيد المسيح عليه السلام كنتيجة لاحتكاك المبشرين والحواريين مع الفكر اليوناني· ومعلوم كذلك أن الفلسفة اليونانية تضع وسيطا بين الإله المتعالي الواحد المنزه التنزيه الكامل، وبين الكون والإنسان· كان أفلاطون قد قال بضرورة التمييز بين الإله المتعالي، وبين الإله الصانع الذي يرجع إليه صنع العالم وتدبيره، وانتشرت هذه الفكرة بعده واتخذت صيغا مختلفة لدى التيارات التي يجمعها اسم ''الأفلاطونية المحدثة''·
وما نريد الخوض فيه في هذا المقال هو أن نبين كيف حدث تأثير هذا التصور اليوناني للألوهية في عقيدة التثليث المسيحية وما ترتب عن ذلك من نتائج في المجال الذي نتحرك فيه والذي أسميناه ''محيط القرآن الكريم''· ونحن نطلب من القارئ أن يتسع صدره معنا حتى نتمكن جميعا من الخروج عن شرنقتنا التقليدية والانفتاح على التاريخ· إنه بدون هذا الانفتاح على ''المحيط '' لن نستطيع فهم أبعاد العقائد الدينية السماوية، اليهودية منها والمسيحية والإسلامية، ولا تدشين حوار حقيقي بين الأديان·
نقرأ في الكتب الدينية المسيحية (الأناجيل) أن أحد علماء اليهود المتفلسفين -واسمه الأصلي شاول- كان من ألد خصوم السيد المسيح عليه السلام ومن أقساهم على أتباعه، لكنه ما لبث أن اهتدى وصار من أكبر أقطاب الدعوة المسيحية، خاصة في العالم الوثني اليوناني الروماني خارج المجتمع اليهودي بفلسطين، وقد سمي ولقب بسبب نشاطه التبشيري العظيم هذا بـ''بولس الرسول''· ويقول مؤرخو الفكر المسيحي إنه أول من قام بالتوفيق بين العقيدة التي بشر بها السيد المسيح التي تقول بإله واحد، وبين الأفلاطونية المحدثة التي تقول بضرورة الوسيط بين الله والعالم، معتمدا في ذلك على فكرة ''التثليث''، وقد حدث ذلك حوالي عام أربعين للميلاد·
نشر بولس الذي انقطع ''لهداية الوثنيين'' (=غير اليهود) هذه الفكرة في رحلاته التبشيرية من سوريا إلى آسيا الصغرى، إلى اليونان إلى إسبانيا لتنتهي به الرحلة إلى روما عام60م·
واستمر احتكاك المسيحية بالفلسفة في الإسكندرية بصفة خاصة حيث ازدهرت هي والعلوم اليونانية منذ عهد البطالمة (القرن الثالث قبل الميلاد)، وكانت قد انتقلت إليها المسيحية في وقت مبكر إذ تأسست كنيستها القبطية عام 42 للميلاد· وعندما ألف الحواريون الأناجيل الأربعة واتخذت المسيحية صورة عقيدة مرسمة حصل اصطدام بين الفلسفة والدين، تحت فضاء المسيحية وبرزت، هناك في الإسكندرية، محاولات للتوفيق بين العقيدة التي تقررها تلك الأناجيل وبين ما تقرره الأفلاطونية، من مبادئ ورؤى، ومن أبرز من قام بذلك الأسقف الفيلسوف الإسكندراني: أوريجيــــــــن Origène 185-4·25
وبخصوص الموضوع الذي يهمنا هنا، موضوع تصور ذات الله، تبنى أوريجين التصور الأفلاطوني للإله المتعالي فقال بالتنزيه المطلق: الله روح مطلق لا علاقة له بالمادة إطلاقا، وإذا كان الكتاب المقدس يصف الله بصفات أو يسميه بأسماء لا تتفق مع كونه روحا مطلقا، مثل وصفه بأنه نور ونفَس وروح، فيجب في نظره أن يحمل ذلك على المعنى المجازي· أما الله في حقيقته فمستقل كل الاستقلال عن كل ما هو مادي، فهو لا يتحدد لا بالزمان ولا بالمكان، وبالتالي يمتنع علينا إدراك حقيقته أو التعبير عنها· إن هذا يعني أن المسيح، مثله مثل أي كائن آخر، لا يشارك الله في حقيقته، وبالتالي فعيسى عليه السلام ليس من طبيعة إلهية بل هو من طبيعة بشرية· وفي الوقت الذي كانت فيه هذه الآراء تستقطب أشياعا ظهر في الإسكندرية أسقف أصله من ليبيا واسمه آريوس Arius, Arrious. كان هذا الرجل قد درس في أنطاكية حيث تأثر بآراء ''الذين قالوا إنا نصارى'' والذين تحدثنا عنهم في المقال السابق، ثم جاء إلى الإسكندرية لمتابعة الدراسة بها فتأثر بأفكار أوريجين وتحمس لها وصار يدعو إليها وكان فصيحا قوي الشخصية فتبعه كثير من رجال الدين وجمهور الشعب الشيء الذي جعله يعين في منصب أسقف كنيسة بوكاليس في الإسكندرية حوالي عام323 للميلاد· وقد شنها ثورة عارمة على القول بألوهية المسيح، مؤكدا بشريته، مقررا أن الآب وحده هو الإله الخ· ومن هنا وُصِف هو وأتباعه بـ''الموحدين''· كان يقول: ''إذا كان اللـه الآب مطلق الكمال، ومطلق السمو، ومطلق الثبات، وإذا كان منشئ كل الأشياء دون أن يكون ذاته صادراً عن أي شيء آخر فإنه من الواضح أنّ كل شيء وكل شخص آخر في العالـم منفصل عن اللـه (···) وإذا كان كل شيء منفصلاً عن اللـه، فلابد إذن أن يكون يسوع أيضاً منفصلاً عن اللـه''·
أحدثت آراء أريوس الجريئة هذه أزمة خطيرة على الصعيدين الديني والسياسي في الإمبراطورية البيزنطية، فانقسم رجال الدين والجمهور المسيحي حولها إلى مؤيدين ومعارضين· كان جل مؤيدي أريوس من عامة الشعب والفقراء خاصة، بينما كان معارضوه من أعمدة النظام الكهنوتي وأشياعه· كانت أزمة استمرت أزيد من سنتين (318-320م)· ومن أجل وضع حد لهذه الأزمة تدخل الإمبراطور