جاءت وفاة الشيخ مكتوم بن راشد آل مكتوم رحمه الله لتحدث شعورا بالألم لدى الأمة العربية والإسلامية؛ فاللحظة التي فارقنا فيها الراحل الكبير تعد الأخطر في حياة هذه الأمة؛ فالغزاة من معظم المرجعيات السياسية والعسكرية والثقافية يُمعنون في استباحة العالم العربي، بقدر ما يُمعن معظم ذوي السلطة والقرار داخله في إذلال شعوبهم وإقصائهم عن المشاركة في شؤون بلدانهم· وفي الوقت الذي يشترك فيه هؤلاء وأولئك في الحيلولة دون فتح ملفات الإصلاح الوطني الديمقراطي والحداثوي، كنا ننظر بدهشة وبإعجاب مشوب بالقلق والكبرياء إلى بعض التجارب النهضوية هنا وهناك في عددٍ من المناطق العربية· كنا وما نزال نملك مثل ذلك الإعجاب وهذا القلق، ولكن بكثير من الخوف من أن تُخترق هذه المناطق بتيار الفساد والانحطاط والتفسخ، كما هو الحال بالنسبة إلى معظم بلدان العالم العربي·
ومن تلك التجارب النهضوية الرائدة والراسخة في العصـــر العربي الراهن تبرز تلك التي أسس لها وقادها -مع كوكبة من الرجال المخلصين- المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وفي قلب هذه التجربة الحية، برز أحد وجوهها وهو المغفور له الشيخ مكتوم بن راشد آل مكتوم· لقد كان الشيخ مكتوم حاكماً لإمارة دبي منذ وفاة والده الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم عام ،1990 وعلى مدى عمره -وهو عمر ليس بالطويل مقارنة مع الإنجازات التي عمل على ترسيخها في حياة الإمارة- استطاع أن يأخذها في خطوات عريضة من التقدم العمراني والحضاري والإعلامي وغيره، وأن يعمق الكثير من تقاليد الحياة الديمقراطية المؤسساتية· وهو، في هذا، كان واحداً من كبار الذين أسهموا في إنتاج رخاء مادي ملحوظ وتقدم مؤسساتي ينافس نظيره في بلدان عربية عريقة في البناء المجتمعي المؤسساتي· وجدير بالذكر أن الشيخ الراحل أسهم في إيجاد حلٍ لإشكالية العلاقة بين الأصالة والمعاصرة، بين التراث والحداثة، أما هذا الحل فقد انطلق -أولاً- من رفض الاعتقاد الخاطئ بأن الماضي عبء على الحاضر بحيث ينبغي التخلص منه، و-ثانياً- من رفض الوهم الأصولي القائم على الاعتقاد بأن الحاضر ليس أكثر من امتداد آلي للماضي بحيث لا يستطيع (أي الحاضر) أن يتجاوز الماضي عبر إنجاز حضاري إبداعي ما· وبصيغة أخرى، لم يكن الشيخ مكتوم ليمنح المقولة الأصولية الشهيرة أهمية ولا صدقية، وهي التي تؤكد أن الأسلاف لم يتركوا شيئاً للأخلاف·
على النقيض من الرأيين السابقين، واللذين يؤذيان العلاقة التّضايفية (الجدلية) بين الماضي والحاضر، استطاع الشيخ مكتوم، مع رعيل من المثقفين والسياسيين المستنيرين، أن يضع يده على صيغة متّسقة ومتقدمة من العلاقة بين الطرفين المذكورين· فبحسب ذلك، ليس الحاضر امتداداً آلياً بسيطاً للماضي بحيث يكون نسخة باهتة عنه، وليس هو قطيعة معه بحيث ينشأ معنا نمط من الحاضر، الذي لا نسب له ولا تاريخ ولا تراث· إن الصواب يكمن في النظر إلى الحاضر بمثابته امتداداً وقطيعة مع الماضي في آن واحد: امتداداً له لأنه لم ينشأ من العدم، من صفر لا تاريخي، وقطعاً معه لأنه (أي الحاضر) يمتلك هوية تمنحه شخصية متميزة عن الماضي وتسمح -بالتالي- باكتشاف الجديد الذي يجسده ويعبر عنه· في ضوء هذه العلاقة المتوازنة، انطلق ''الإماراتيون البناءون'' -والشيخ مكتوم بن راشد آل مكتوم أحد رموزهم- باتجاه البناء··· نعم البناء الشامخ بتواضع وصمت، ولكن بتصميم على إنجاز نتائج ترقى إلى مستوى العصر·
لقد أخفقت النظم العربية، في جُلّها، في الحفاظ على ما ورثته من عهود الاستقلال، ففرّطت به، بل فككته واقتسمت تركته بين أبنائها وأحفادها، ودوّلت الملايين ثم المليارات من الأموال التي اختطفتها من خزينة الوطن وأفواه مواطنيه· وإذ حدث ذلك في بلدان عربية أكثر عراقة في الحضارة والثروة والتقدم، فقد كنا نراقب مشهداً آخر من الوطن العربي، مشهداً فرض نفسه شيئاً فشيئاً على المسرح العربي، بل كذلك الدولي: إنه مشهد البناء الحضاري في أرض الإمارات العربية المتحدة، بحيث حوّلت الصحراء إلى واحات من التقدم· ولعل تساؤلاً أولياً ينشأ ها هنا حول الأسباب التي كانت وراء بروز هذا البناء الحضاري من طرف، ووراء الانحسار الحضاري في بلدان عربية كثيرة أخرى من طرف آخر، وهو تساؤل مشروع كل الشرعية، فأولئك الإماراتيون البنّاءون أدركوا أولا أن العدل أساس الملك، وأدركوا ثانيا أن الكفاية المادية الشريفة لجميع الشعب هي المدخل إلى استقرار حياة الناس، وأدركوا ثالثا أن الحرية المتنامية والمتقدمة على نحو مفتوح، هي تعميق لإنجازات الحاضر والمستقبل· لقد أدركوا ذلك في سياق ''اكتشاف'' أن حرية البلد منوطةٌ باستقلاله وسيادته· بل لعلهم أدركوا أيضا أن إنجاز مشروع وطني منوط بإنجاز رهان أساسي وحاسم، ألا وهو رهان النظام السياسي على شعبه أولاً وأخيرا·
على ذلك النحو، تحاشى أولئك الاتحاديون البناءون ما وقعت فيه نظم عربية أخرى كثيرة، وهو الاستبداد الرباعي: استفراد بالسلطة وبالثروة وبالرأي العام وبالحقيقة· وفي ضوء ذلك هم ماضون، ف