بغياب أمير الكويت، الشيخ جابر الأحمد الصباح، الذي غيّبه الموت أمس، تفقد دول مجلس التعاون رجلا آخر من رجالاتها المؤثرين، الذين قادوا دول المنطقة في واحدة من أحرج فتراتها التاريخية· والمؤكد أن استعراض رحلة الفقيد الراحل -رحمه الله- في الحكم والقيادة بدولة الكويت الشقيقة يشير إلى مسيرة عطاء استثنائية لرجل دولة من طراز فريد، حيث ينطوي عطاؤه السياسي على محطات نوعية فارقة بعضها كان كفيلا بإعادة صياغة التاريخ السياسي لبلاده، ولكنها تعكس جميعا مواقف رجل وإصرار شعب على الحياة والتمسّك بالهوية والأرض· وإذا كان الرجال يعرفون من خلال مواقفهم في محافل عدة، فإن أمير الكويت الراحل قد أثبت غير مرة مقدرته الفائقة على التعامل مع أحلك المواقف والمنعطفات في تاريخ بلاده وشعبه وأمته، ما جعله محط احترام وتقدير إقليمي ودولي· وإذا كان ''ما لا يدرك كله لا يترك جلّه''، كما يقال، فإن استعراض بعض المحطات البارزة في مسيرة الفقيد الراحل طيلة سنوات حكمه يشير إلى مقدرة فائقة في الإمساك بدفة الأمور وتوجيه دفة السفينة سياسيا نحو وجهتها التي يأملها الشعب الكويتي الشقيق، فقد نجح الأمير الراحل في تجاوز اختبارات سياسية واستراتيجية عسيرة كادت تعصف باستقرار الدولة، بل إن بعض هذه الاختبارات طال وجود الدولــة وهويتهــا، ولكنهــا الحكمـة والخبرة السياسيـة التي مكّنت الشيخ جابر -رحمه الله- من تصحيح الأوضــاع بعــد زوال الغــزو الذي تعرّضت له البلاد على يد نظام صدام حسين، وتحريـر الكويت مـن خلال تحالــف دولي عكــس حرص المجتمع الدولــي على تخليص الكويت مــن براثن الاحتــلال تقديرا لتاريخهــا واحتراما لدورها الإقليمي والدولــي·
ويشير استعراض المواقف أيضا إلى أن خبرة الشيخ جابر قد منحت الكويت الاستقرار في فترات عصيبة مرت بها منطقة الخليج العربي، التي كانت ساحة لحروب وصراعات دامية استمرت سنوات طويلة، كما نجح -رحمه الله- في تحقيق كمّ هائل من الإنجازات التراكمية التي شهدتها الكويت في سنوات قلائل وتحديدا منذ عام ،1991 حيث أعيد ترتيب البيت الكويتي في وقت قياسي بمعايير الكم والكيف، وترافقت عودة الاستقرار الاقتصادي مع استعادة وتيرة التطور السياسي والبناء الاجتماعي حتى تبوأت الكويت مكانتها مجددا على الصعيدين الإقليمي والدولي·
إن المتأمل لرحلة عطاء أمير الكويت الراحل يجد نفسه في مواجهة ''رجل دولة'' بالمفهوم الحقيقي والدلالي للكلمة، إذ تشير مختلف مواقفه ومعالجاته للقضايا والإشكاليات التي واجهتها دولة الكويت الشقيقة في منعطفات تاريخية مختلفة إلى سلوك متجذر لرجل دولة يدرك حجم المسؤوليات التاريخية والقيادية الملقاة على عاتقه، ويدرك بإحساس سياسي عالٍ تبعات القرار السياسي وتأثيراته وقيمة الوقت في التحرك الدبلوماسي ومعنى الموقف السياسي وقيمته وحدود تأثيراته ومردوده على دولته في مختلف الأزمنة، وكذلك كيفية جذب الدعم والتأييد الإقليمي والدولي لدولته من خلال تحرّكات سياسية واعية تحيط بتفاصيل البيئة السياسية المحيطة وتتفهّم شبكة العلاقات والمصالح التي تؤثر في منظومة القرار الدولي، بحيث وفّر لدولة الكويت خلال فترة حكمه -رحمه الله- فكرا سياسيا عقلانيا رشيدا قاد البلاد إلى التطور والحداثة في المجالات كافة·
عن نشرة أخبار الساعة
الصادرة عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية
www.ecssr.ac.ae