تعاظمت في الأوقات الأخيرة ظاهرة ''الاختطاف'' الموجهة إلى أفراد يتحدرون من بلدان متعددة ومن مرجعيات سياسية وإثنية وقبلية ودينية وغيرها· أما المجموعات التي تلجأ إلى هذه الطريقة العشوائية فتنتمي إلى بلدان غالباً ما تغيب فيها الدولة ومؤسساتها· وما يلفت النظر في هذه الظاهرة أنها تقوم على بنية اجتماعية ما زالت تنطلق من مجتمع ما قبل وطني (قبلي وعشائري وطوائفي وغيره)· ومن ثم، لا يحتمل الأمر وجود دولة قانونية دستورية تسعى للحفاظ على مثل تلك الظاهرات القبلية والعشائرية والطوائفية، تكريساً لفساد غارقة فيه وتمزيقاً لوحدة خصومها ثانياً؛ أو أن تدخلات خارجية أجنبية يهمها إبقاء المجتمع المعني قابلاً للاقتتال والاحتراب ومن ثم للاختراق ثالثاً، بهدف تسهيل الوصول إلى زعزعة هذا المجتمع وتحويله إلى لقمة سائغة·
في مثل ذلك المجتمع، يكون من السهولة بمكان أن يلجأ الناس إلى حلّ مشكلاتهم الاجتماعية والاقتصادية والقضائية خصوصاً بأيديهم، وعبر الانتقام من أجهزة أمنية أو سياسية سلطوية تقدم نفسها على أنها المرجعية في القرار المجتمعي· وقد استمر هذا الوضع طويلاً في كثير من بلدان العالم الثالث، قبل نشأة النظام العالمي الجديد، مع شدٍ ورخي تجاه بلورة مؤسسات دولتية مركزية ناظمة· وإذا كان من صالح هذا النظام أن ينشأ شيء من هذا القبيل في واحد من تلك البلدان، إلا أن السعي لتكوين دولة وطنية دستورية وذات سيادة، لا يستقيم مع أهدافه الكبرى، ذلك لأنه جاء لتأسيس ''القرية الكونية الواحدة''، أي ما أطلق عليه مشيال بوغنون- موردان ''السوق المطلقة''· ومن ثم، فإن في الموقف العالمي من البلدان المذكورة تناقضاً بين محاولة القبض على مقدراتها بحيث يحتاج الأمر إلى ضوابط عمومية ''دستورية'' ما من طرف، وبين رفض سيادتها المؤسسة على دولة وطنية دستورية من طرف آخر· (وقد نستشف مما يحدث في العراق شيئاً من ذلك، خصوصاً حين يتعلق الأمر بموقف الاحتلال الأميركي هناك)·
على ذلك، قد يتضح أن قضية ''خطف الأجانب''، ستبقى معلّقة ومشكلة: فلا للدولة الرادعة، ولا للخطف! وفي هذه الحال، ما العمل مع الخاطفين؟ لقد صدرت آراء تقويمية حول الخطف المذكور ترى فيه ''إرهاباً''· أما هذا الأخير فإن النظر إليه لن يخرج عن كونه ظاهرة غير مُقرٍ بها، ولا تمتلك من ثمّ شرعية ما لا على الصعيد السياسي، ولا الإنساني، ولا الأخلاقي· وقد أتى تقرير البيت الأبيض لعام 2002 واضحاً في ذلك، حين رفع الإقرار بـ''الإرهاب''، بكيفية ما· وجعل ذلك بالصيغة التالية: لا مسامحة مع الإرهابيين لأن الإرهاب ''غير شرعي مثل تجارة الرقيق والإبادة، ومن ثم لا اعتذار من الإرهابيين وإنما هنالك حل وحيد هو كسر عظمهم''· وحين يكتسب الإرهاب طابعاً جماعياً دولتياً تقوم به إحدى ''الدول المارقة، فإن النظام العولمي الجديد يفضّل اللجوء إلى نوع من ''المساومة''، ولكن في كل الأحوال ''دون إقرار بالسيادة''، التي تتحدث عنها قرارات مجلس الأمن· ذلك لأن هذه القرارات إنما أصبحت من مخلفات النظام العالمي القديم· ومن يجرؤ على طرح مثل تلك المساومة عبر إقرار ''إيجابي'' بالمُساوَم معهم (الإرهابيين)، فإنه يكون قد خرج على الشرعية بكل تجلياتها واعتباراتها·
في ضوء تلك المعطيات المنطلقة من تقرير البيت الأبيض المذكور، يجد المرء نفسه، حقاً، أمام مشهد جديد للعالم يقطع قطعاً كلياً، (إبيستيمولوجياً) مع ما سبقه· وما يلفت في هذا المشهد أن مقولة ''كسر العظم''، تُحيل إلى ''عالم الغابة''· أما هذا الأخير فيفصح عن نفسه ليس بصيغة ''غابة'' من المتحاربين، الذين لا تخرج إمكانياتهم القتالية عن أسلحة ''عضلية'' إلا قليلاً، في حين يؤسس عالم الغابة الجديد القائم على ''كسر العظم'' حالة من الإبادة لكل من يخرج على القواعد الجديدة، وذلك بسبب من نمط السلاح المستخدم· وإذ يكون الأمر على هذا النحو، فكم يكون معقداً وشائكاً ومأساوياً أن يعيش العالم راهناً تحت وطأة عدد متتال من الأخطار، دون التمكن من مواجهتها والقضاء عليها، مثل وباء أنفلونزا الطيور· ولعلنا- والموقف كذلك- قد ولجنا مرحلة جديدة فعلاً في تاريخ العالم، تتجسد خصوصاً في غياب ''الحكمة'' وفي تغييبها، بحيث يقود ذلك إلى ثنائية ''القاتل القتيل''·
إن قلقاً عارماً يلفّ العالم، خصوصاً حين يفرّط بالبحث في أسباب ''الإرهاب'' وفي حيثياته وإشكالاته· هذا العام الجديد يستوجب العودة إلى الحكمة بقدر ما وعلى نحو يُسهم في ضبط فواعل الموت في العالم·