ليس هناك من شك في أن حوار الحضارات أصبح من بين القضايا التي تملأ الدنيا وتشغل الناس· وهناك تساؤلات شتى تدور حول السبب الذي جعل من هذه القضية مشكلة تنشغل بها مراكز الأبحاث العالمية والدوائر السياسية، والمثقفون في مختلف أرجاء المعمورة·
وقد سيق في هذا الصدد سبب رئيسي مؤداه أن سقوط الاتحاد السوفيتي والكتلة الاشتراكية ونهاية النظام ثنائي القطبية وزوال أشباح الحرب الباردة، قد أدى إلى توقف الصراع الإيديولوجي الضاري بين الشيوعية والرأسمالية· وهذا في حد ذاته هو الذي فتح الباب واسعاً وعريضاً أمام حوار الحضارات، بعد أن تم زوال القهر السياسي الذي مارسته الدول الشمولية على عديد من الأقليات العرقية واللغوية، مما أطلق ثورة الخصوصيات الثقافية والنعرات العرقية· بالإضافة إلى إحساس دوائر متعددة في العالم بالحاجة إلى حوار حضاري عالمي يؤسس لعالم جديد، بعد أن سقطت دعائم النظام القديم·
ولا شك أن بروز العولمة باعتبارها هي العملية التاريخية العميقة التي تشمل العالم في الوقت الراهن، بتجلياتها السياسية والاقتصادية والثقافية والتواصلية، سبب رئيسي لبروز ظاهرة حوار الحضارات· ويرد ذلك إلى أن نزوع العولمة إلى توحيد العالم سياسيا عن طريق شعارات الديمقراطية والتعددية واحترام حقوق الإنسان، واقتصادياً من خلال معاهدة منظمة التجارة العالمية، وثقافياً من خلال فرض قيم ثقافة كونية، واتصالياً بواسطة البث الفضائي التليفزيوني وشبكة الإنترنت، قد أثار ردود أفعال عنيفة ومقاومات متعددة· وذلك لأن التوحيد الذي تسعي العولمة إلى فرضه على الدول والحكومات والشعوب هو توحيد قسري في غالب الأحيان، مما أدى إلى ظهور شعارات المحلية في مواجهة العولمة السياسية، والخصوصية الثقافية في مواجهة فرض قيم ثقافية غربية ترتدي لبوس العالمية·
ونجم عن ذلك كله عمليتان متضادتان: توحيد من ناحية، وتشرذم وتفتت من ناحية أخرى· ومن ثم بدت الحاجة إلى حوار الحضارات لمواجهة هذه الإشكاليات المعرفية والمشكلات الواقعية· وربما آن الأوان لكي نصحح الاستعمال الذائع ونقصد عبارة حوار الحضارات، ونتحدث عن حوار الثقافات، لسبب بسيط مؤداه -كما يذهب إلى ذلك عديد من الباحثين والمفكرين- أننا جميعاً في الشرق والغرب نعيش في ظل حضارة واحدة هي الحضارة العلمية والتكنولوجية والاتصالية، وإن كنا نتوزع واقعياً بين ثقافات متعددة· ومن وجهة نظر التحليل الثقافي فإن مفهوم ''رؤية العالم'' أي وجهة النظر إزاء الكون والمجتمع والإنسان التي تتبناها كل ثقافة، هي مفتاح فهم تعدد الثقافات· وفي هذا المجال هناك اتفاق عالمي على أنه ليست هناك ثقافة أسمى من ثقافة، لأن لكل ثقافة كرامتها الخاصة وتاريخها المشروع· وهو إجماع لا يوافق عليه أنصار العنصرية الجديدة، والذين يحاولون إحياء المشروع العنصري القديم الذي ساد في القرن التاسع عشر، مرافقاً في ذلك للاستعمار الغربي لعديد من بلاد العالم الثالث، والذي كان قوامه نظرية ''عبء الرجل الأبيض''، الذي ألقت المقادير على عاتقه مهمة تمدين الشعوب الهمجية والثقافات البربرية!
وقد نظمت منظمة اليونسكو مؤتمراً عالمياً عقد في ''فلنيوس'' عاصمة ليتوانيا عن حوار الحضارات، دعيت إليه لكي أقدم بحثاً عن مفاهيم الحضارة في القرن الحادي والعشرين· وقد اكتشفت في هذا المؤتمر العالمي الذي ضم أبرز مثقفي العالم المعنيين بالموضوع، أنه ليس هناك وضوح فكري فيما يتعلق بنظرية ومنهج وأجندة حوار الحضارات· وقد دفعني ذلك عقب عودتي من المؤتمر إلى أن أتفرغ لبحث الموضوع من كافة أبعاده، سعياً وراء صياغة رؤية عربية لحوار الحضارات· وأصدرت كتابي ''حوار الحضارات: الغرب الكوني والشرق المتفرد''، وواصلت البحث بعد ذلك، وانتهيت إلى نظرية متكاملة عن الرؤية العربية لحوار الثقافات، تتضمن مبادرة حضارية عربية، ومنهجا يحدد معايير اختيار المشكلات التي ستطرح في مجال الحوار· وهذه المشكلات بعضها عالمي يتعلق بالإشكاليات المعرفية والمشكلات الواقعية التي ستواجه القرن الحادي والعشرين، بالإضافة إلى ضرورة وضع نظام عالمي جديد، وبعضها يتعلق بالمشكلات بيننا وبين الغرب· ونستطيع أن نوجز أهم عناصر المبادرة الحضارية العربية المقترحة فيما يلي:
1- ضرورة صياغة مفهوم لتحقيق السلام العالمي يقوم على أساس تعريف محدد للعدل باعتباره إنصافاً Fairness إذا استخدمنا التعريف الموفق الذي صاغه فيلسوف جامعة هارفارد ''جون رولز'' في كتابه الشهير ''نظرية عن العدل''·
2- ولا يمكن للسلام العالمي أن يتحقق إلا إذا ووجهت سلبيات العولمة الاقتصادية بشكل حاسم· ذلك أن العولمة في الوقت الراهن تعمل لصالح دول الشمال المتقدمة على حساب دول الجنوب الفقيرة· وفي هذا المقام لابد من إعادة التفاوض حول معاهدة منظمة التجارة العالمية، وتعديل المواد التي نصت على أحكام مجحفة بالدول النامية مما من شأنه أن يدمر بنيتها الاقتصادية على المدى الطويل·
3- ولابد للمبادرة أن تركز على ضرورة وضع معايير لتقنين حق التدخل السياسي،