مع غموض الحالة الصحية لرئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون وتضارب التكهنات عن مصيره ومستقبله السياسي، تجدد الحديث في أوساط المعلقين والكتاب الصهاينة عن مستقبل الدولة التي ظل شارون رمزاً لها لسنوات عديدة، وهو حديث يفرض نفسه كلما تعرض الكيان الصهيوني لإحدى الأزمات الجوهرية التي تطل برأسها بين الحين والآخر· فمع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى في عام ،1987 على سبيل المثال، أعرب ممثل المستوطنين الصهاينة ''إسرائيل هاريل'' عن تخوفه من أن أي ''تنازل'' يقدم عليه الكيان الصهيوني ''يمكن أن يهدد وجود الدولة ذاتها'' (صحيفة جيروزاليم بوست 30 يناير 1988)· كما صدر أحد أعداد مجلة نيوزويك الأميركية (2 أبريل 2002) وقد حمل الغلاف صورة نجمة إسرائيل، وفي داخلها السؤال التالي: ''مستقبل إسرائيل: كيف سيتسنى لها البقاء؟''· ولم تتردد المجلة في أن تطرح القضية بصورة أكثر صراحة، فتساءلت: ''هل ستبقى الدولة اليهودية على قيد الحياة؟ وبأي ثمن؟ وبأية هوية؟''· ولم يمض وقت طويل حتى أثار الكاتب والسياسي الصهيوني ''أبراهام بورج'' القضية مجدداً، حيث أعرب عن تشاؤمه بشأن مستقبل المشروع الصهيوني برمته، قائلاً:''إن نهاية المشروع الصهيوني على عتبات أبوابنا· وهناك فرصة حقيقية لأن يكون جيلنا آخر جيل صهيوني'' (صحيفة يديعوت أحرونوت، 29 أغسطس 2003)· وبعد أسابيع قلائل، أعرب كاتب آخر هو ''يرون لندن'' في (صحيفة يديعوت أحرونوت، 27 نوفمبر 2003) عن نفس القدر من التشاؤم في مقال بعنوان: ''عقارب الساعة تقترب من الصفر لدولة إسرائيل''، حيث أكد ''أن عدداً كبيراً من الإسرائيليين يشكون فيما إذا كانت الدولة ستبقى بعد 30 سنة''· ومنذ ذلك الحين تُطرح قضية نهاية الكيان الصهيوني من زوايا ومنطلقات عدة، تكاد تخلو جميعها من أية بادرة أمل·
ومؤخراً، وفي معرض الحديث عن مرحلة ما بعد شارون، تساءل الكاتب الصهيوني آري شافيت (صحيفة هآرتس، 13 يناير 2006) إن كان من الممكن مواصلة المشروع الصهيوني من دون شارون، الذي وصفه بأنه ''لعب طوال خمسين عاماً دوراً مصيرياً في صياغة مصير دولة اليهود''، وانتهى إلى القول بأن المجتمع الذي يرحل عنه شارون ''يمكن بسهولة أن يتدهور إلى حرب أهلية''· ولاشك أن الحديث عن مستقبل الكيان الصهيوني يعيد إلى الأذهان المصير الذي انتهت إليه تجارب استيطانية مماثلة، وفي مقدمتها نظام الفصل العنصري السابق في جنوب أفريقيا، والذي سقط دون أن يسفر ذلك عن مذابح جماعية أو حملات إبادة أو حروب أهلية كما كان يروج أنصار هذا النظام لتبرير وجوده· فعلى مدار قرون، تمسك الأفارقة السود، أبناء البلاد الأصليون، بحقهم في المساواة والعيش بكرامة في وطنهم، وقاوموا بكل السبل السياسية والثقافية والعسكرية محاولات إخضاعهم أو تغييبهم أو تهميشهم، وبعد سنوات من ''الحوار المسلح'' مع الأقلية البيضاء التي كانت تسيطر على مقاليد الأمور في البلاد، بدأت هذه الأقلية تدرك أنه لا يمكن التوصل إلى حل دائم من خلال الوسائل الأمنية أو العسكرية، ومن ثم وافقت على إنهاء النظام العنصري وتسليم السلطة إلى ممثلي السكان الأصليين بقيادة نيلسون مانديلا، والذي لم يتنازل مطلقاً، حتى في أحلك اللحظات، عن حق شعبه في انتهاج أسلوب المقاومة المسلحة في مواجهة المســـــــتوطنين العنصــــريـــــــين· وشـــكل هـــذا الإدراك، وما تبعه من خطوات عملية، إيذاناً بظهور نظام جديد استوعب المستوطنين البيض، الذين تحولوا إلى مواطنين في دولة متعددة الأديان والأعراق والقوميات، وفتح الباب أمام الجميع للمشاركة في العملية السياسية والتمتع بالحقوق كافةً دون تفرقة على أساس اللون أو الدين أو اللغة أو الجنس·
ومن الممكن أن يكون نموذج جنوب أفريقيا نموذجاً قابلاً للتحقق في فلسطين· فمع تصاعد ''الحوار المسلح''، قد يغدو الجيب الاستيطاني الصهيوني باهظ التكلفة بالنسبة للدول الاستعمارية التي ترعاه، وقد ينال الإرهاق من المستوطنين الصهاينة مما يدفعهم إلى التسليم بأن لا طائل من وراء الحلول العسكرية والأمنية، وألا مخرج لهم سوى التخلي عن عنصريتهم وعزلتهم وادعاءاتهم القومية والدينية· ويتطلب هذا، بطبيعة الحال، أن تستمر المقاومة الفلسطينية بمختلف الوسائل، وفي مقدمتها الكفاح المسلح، وأن تواصل في الوقت نفسه توجيه رسائل إلى المستوطنين، ولاسيما اليهود الشرقيين، مؤداها أن الحل العربي لمسألة الاحتلال الاستيطاني الصهيوني لا يعني ذبح اليهود أو إبادتهم، كما تزعم القيادات الصهيونية، وإنما تفكيك الإطار العنصري للدولة، وإنشاء مجتمع جديد على أسس إنسانية وديمقراطية· فهذه الدولة الصهيونية تدعي أنها ليست دولة لكل مواطنيها الذين يعيشون داخلها، بل دولة لكل يهود العالم الذين يعيشون خارجها، وهو وضع شاذ لا سند له في تجارب التاريخ أو في الأعراف والقوانين الدولية· وهذه الدولة لا تكف عن الحديث عن ''حق العودة'' لليهود من مختلف أنحاء العالم، رغم مرور آلاف السنين على وجودهم المزعوم على أرض فلسطين، ورغم أن أغل