هل يمكن صياغة إطار لرؤية عربية وإسلامية للحوار الثقافي مع الآخر في إطار ما يطلق عليه حوار الحضارات؟ هذا فيما نعتقد سؤال مهم ويستحق إجابة تفصيلية·
لقد تصدينا لهذه المشكلة عبر سنوات طويلة نشرنا فيها دراسات متعددة عن حوار الحضارات· وقد قدمت في مقالي السابق ''رؤية عربية لحوار الحضارات'' خلاصة الرؤية التي اقترحها، والتي قدمتها في بحث كلفتني ''المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم'' بإعداده للعرض في اجتماع لمجموعة من الخبراء عقد في أبوظبي في الفترة من 4 إلى 7 يناير ·2006 ومنذ أيام قليلة أرسلت لي الدكتورة ريتا عوض مديرة إدارة الثقافة بالمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم والتي أشرفت على إدارة الاجتماع، التقرير النهائي والتوصيات وعنوانه: ''اجتماع خبراء عرب لصياغة موقف عربي وإسلامي من الحوار''· ويمكن القول إن التقرير تضمن موضوعين أساسيين، الموضوع الأول يمكن أن نطلق عليه قواعد الحوار، والموضوع الثاني يتعلق بما يمكن أن نطلق عليه أخلاقيات الحوار· والواقع أننا نريد أن نلقي نظرة شاملة على محتويات التقرير حتى يستطيع القارئ المتابع أن يتعرف على الملامح الأساسية لقواعد ومنهج وأخلاقيات حوار الثقافات، كما خلصت إليها مجموعة من الخبراء العرب المتميزين، والتي ستطرح بعد شهور في اجتماع وزراء الثقافة العرب الذي سيعقد في مسقط· ولم يغب عن التقرير أن يصدره بفقرة مهمة عن ''مسوغات الحوار مع الآخر'' وفي هذا المجال هناك إشارات مهمة لظاهرة العولمة التي تملأ الدنيا وتشغل الناس·
والعولمة في تعريف إجرائي لها هي ''سرعة تدفق السلع والخدمات والأفكار والبشر بين الدول بغير حدود ولا قيود'' والعولمة وفق هـــذا التعريف -الذي سبق أن صغته وتبنيته في دراساتي المنشورة عن العولمة- تنزع إلى توحيد العالم في مختلف مجالات السياسة والاقتصاد والمجتمع والثقافة، وهو توحيد يحمل مخاطر تهدد بإلغاء التنوع الثقافي·
ومن هنا أصبحت الحاجة ملحة إلى حوار الثقافات، لكي يعرض كل طرف مفهومه لذاته وصورته عن الآخر· ويعرض التقرير لأهمية دخول العرب والمسلمين حوار الثقافات من باب الندية الثقافية والكفاءة المعرفية معاً· ويصف التقرير في فقرة مهمة سمات الحوار المرغوب حين يقرر ''أن الحوار الذي يسعى إليه العرب والمسلمون في هذه المرحلة المصيرية من تاريخ الإنسانية هو الحوار المبني على حرية الاختيار وشرعية الاختلاف، واحترام الآخر المختلف في اللون والعرق واللغة والدين والثقافة· ومن أول شروط نجاح الحوار العربي والإسلامي مع الآخر أن يتخلص المثقفون العرب والمسلمون من عقدة الذنب أو الشعور بأنهم متهمون، في خطابهم، وأن يتخلوا عن الأسلوب الاعتذاري والدفاع المستمر عن الذات· ولابد أن ندرك أن الحوار الذي يجريه العرب والمسلمون في عصر العولمة محكوم بظروف دولية معقدة للغاية على كافة المستويات، إذ تصاغ برامج وترسم خطط خارجية تفرض على الشعوب، ومنها العرب والشعوب الإسلامية، في إطار ما يعرف باسم حرب الأفكار، وإعادة تشكيل الآخر وفق ثقافة منمطة وموحدة يفرضها القطب الأميركي الأقوى، الذي يتفرد باتخاذ الكثير من القرارات المصيرية التي تطول مستقبل البشرية جمعاء''·
وانتقل التقرير بعد ذلك ليحدد مجموعة من القواعد أو فلنقل مجموعة من ''قواعد المنهج'' في الحوار الثقافي· وأول قاعدة يشير إليها هي أهمية ممارسة النقد الذاتي· والواقع أنني في عديد من دراساتى المنشورة أكدت أن ممارسة النقد الذاتي ليست فضيلة عربية ولكنه -على العكس- فضيلة غربية! ولعلي لا أبالغ إذا قررت أن أحد أسباب التقدم الغربي هو ممارسة النقد الذاتي لتصحيح المسيرة·
ونحن -في إطار حوار الثقافات- في حاجة إلى المبادرة بممارسة النقد الذاتي حتى تكون لنا شرعية في نقد الآخر! بعبارة أخرى بدلاً من أن يوجه لنا الآخر أوروبياً كان أم أميركياً اللوم على سلبياتنا السياسية والاقتصادية والثقافية، علينا نحن أن نعترف بها ونشخصها ونعطيها التكييف الصحيح· والقاعدة الثانية التي يشير إليها التقرير هي أهمية استيعاب نقدي عميق لثقافة الآخرين من مصادرها الأصلية·
وهذه القاعدة هي ما أطلق عليها ضرورة رسم ''خرائط معرفية'' عن الآخر· بمعنى ضرورة رسم خريطة معرفية للمجتمعات الأوروبية -على سبيل المثال- تحدد بشكل كامل التيارات الإيديولوجية الفاعلة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، مع تحديد -ما أمكن- الوزن النسبي لكل تيار·
لو فعلنا ذلك سنكتشف أن هناك تيارات إيديولوجية عنصرية في أوروبا، ولكن في نفس الوقت هناك تيارات ليبرالية وديمقراطية، وبعض أجنحتها من أشد المدافعين عن العالم الثالث عموماً، وعن العالم العربي والإسلامي خصوصاً·
وأهمية الخريطة المعرفية أنها ستساعد الذين سيقومون بالحوارات الثقافية على معرفة الجماعات والمؤسسات التي ينبغي أن تكون مستهدفة بالحوار، لأنه لابد من صياغة استراتيجية حوارية تناسب كل تيار إيديولوجي، مع الحفاظ في نفس الوقت على مجموعة من الثوابت·
ومن ناحية أخرى هناك ضرورة لرس