لا يضيف قرار طرد الرئيس ياسر عرفات إلى خارج فلسطين كثيراً إلى ما نعرفه عن الطابع العدواني للسياسة الإسرائيلية وإصرار أرييل شارون شخصياً على تحقيق ما لم ينجح فيه منذ أكثر من عشرين عاماً· فكان شطب عرفات هو أحد أهم أهداف حملة غزو لبنان التي قادها شارون عام ·1982
كل هذا، وغيره، معروفا· ولكن المشكلة المزمنة منذ عام 1948 هي أن معرفتنا بالكثير من خطط إسرائيل لا يفيدنا في إحباطها، بل نبدو في بعض الأحيان كما لو أننا نساعد في تنفيذها بما نرتكبه من أخطاء· وكان آخر خطأ فلسطيني كبير في هذا المسلسل هو ترك الخلافات تتراكم بين عرفات ورفيق كفاحه التاريخي محمود عباس إلى أن انهارت الحكومة التي كان مفترضاً أن تحشد كل الامكانات لدعمها، لأن كل ذي عينين رأى منذ تشكيلها أن فشلها يمكن أن يجر على الشعب الفلسطيني وقضيته المزيد من الويلات·
ولذلك تنطوي تجربة هذه الحكومة، وما أكدته من عجز عرفات وعباس عن العمل معاً، علي درس بالغ الأهمية ينبغي أن نقف أمامه ونقارن بين سلوك السياسيين الفلسطينيين والإسرائيليين في لحظات الأزمة·
فعندما فاز أرييل شارون على ايهود باراك في الانتخابات التي أجريت على منصب رئيس الوزراء في 6 فبراير ،2001 أعلن أنه يريد تشكيل حكومة وحدة وطنية تضم حزب العمل · كان في إمكان شارون تكوين حكومية يمينية بقيادة حزب ليكود على هواه دون أن يضطر إلى النزول على مقتضيات تحالف صعب بين فرقاء سياسيين· ولكنه قرر تغليب المصلحة العامة، وعرض على خصومه في حزب العمل أن يشاركوه في السلطة· كان بنيامين بن اليعازر قد خلف باراك المهزوم في قيادة هذا الحزب· ولكن ظل شمعون بيريز هو مركز الثقل فيه بسبب مكانته السياسية التي حصل عليها من دور طويل في خدمة بلاده يصل إلى نصف قرن من الزمن· ولذلك صار بيريز، الذي تولى منصب وزير الخارجية، هو الرجل الثاني في حكومة شارون· وأثار هذا الوضع تساؤلات عن امكان التعايش بين شارون وبيريز· كانت عناوين بعض الصحف الإسرائيلية، وغيرها، الصادرة في 8 مارس 2001 تشير إلى تولي شارون رئاسة الوزراء وسط توقعات بحدوث صراعات حادة في داخل حكومته، أو تتحدث عن أن هذه الحكومة لن تنعم بوقت طويل من الانسجام في داخلها·
وكم تعجب مراقبون حين وجدوا الرجلين يعملان معاً ويتساندان بإخلاص· لم يخش شارون أن تكون لبيريز مآرب أخرى يسعى إلى تحقيقها من وراء ظهره· كما لم يجد وزير الخارجية عيباً في أن يعمل تحت رئاسة رجل لم يسبق له رئاسة الحكومة ولا حتى قيادة حزبه ليكود من قبل· لم يشعر بيريز بالغضب لهذا الوضع وهو الذي كان رئيساً للحكومة قبل شارون بنحو خمسة عشر عاماً· وفضلا عن ذلك فالمسافة السياسية واسعة بين شارون المعروف بتشدده تجاه الفلسطينيين وإصراره على أن القوة هي السبيل لحسم الصراع معهم، وبيريز المشهور باعتداله وحرصه على البحث عن حل وسط تاريخي واعتقاده في أن القوة لا تفيد في إدارة صراع مع الشعب الفلسطيني الذي لا خيار لإسرائيل إلا التعايش معه·
ومع ذلك ضرب شارون وبيريز أبلغ الأمثال في التعاون من أجل مصلحة بلدهما وشعبهما على رغم كل عوامل التنافر بينهما· سعى كل منهما إلى فهم موقف الآخر وظروفه· حرص بيريز على عدم إثارة مخاوف شارون، وابتعد عن الأمور التي يمكن أن تنطوي على حساسية بالنسبة إليه، وتعمد أن يظهر للجميع أن هناك رئيس وزراء واحدا وقيادة واحدة للحكومة· وحرص شارون من جانبه على إعطاء بيريز ما يستحقه من احترام وما يليق بمكانته ودوره السياسي الممتد· بدا بيريز شديد الحماس حين أخذ على عاتقه السعي إلى تحسين صورة شارون الملطخة بالدماء ومحاولة تسويقه في الأوساط الدولية· وكان لبيريز الفضل الأول في تحسين صورته وتقديميه إلى العالم كرجل دولة، الأمر الذي عرضه إلى حملات شنها عليه خصومه السياسيون وبعض زملائه في الحزب، وخصوصاً الأكثر ارتباطاً بحركة السلام، إذ رأوا في وقوفه مع شارون دعماً للتطرف·
ألا يثير ذلك سؤالاً عن عوامل نجاح شارون وبيريز وإخفاق ياسر عرفات ومحمود عباس في العمل معا؟ ألا ينبغي أن يشغلنا الفرق بين تجربة شارون وبيريز التي نجد الكثير مما يماثلها في إسرائيل، وتجربة أبوعمار وأبومازن التي لا يمكن اعتبارها فريدة في نوعها على الصعيد الفلسطيني أو العربي بوجه عام؟
لقد نجح شارون وبيريز في العمل معاً لأنهما نشآ في بيئة سياسية عمادها تغليب المصلحة العامة والاستعداد للتضحية من أجلها واعتبار المنصب السياسي خدمة عامة وليس جائزة خاصة· كما أنهما تعلما السياسة في نظام يقوم على قواعد ومعايير يحتكم الجميع إليها، وتقاس مكانة السياسي فيه بمدى احترامه لها إضافة إلى حجم عطائه·
وهذا هو الفرق الجوهري بين التجربتين أو الحالتين، لأن عرفات وعباس لا يقلان إخلاصاً لقضية وطنهما وشعبهما، ولكنهما يعملان في بيئة سياسية تسودها الولاءات الشخصية والعلاقات الشللية والنزعات الفصائلية بكل تأثيراتها على الأداء السياسي والعمل العام· فالفرق قد لا يكون دائماً في الأشخاص، بل في النظام والأجواء بانعكاساته