بين فلاسفة ومفكري القرن العشرين ربما هناك العديد من الفلاسفة كتبوا وقدموا للإرث الفكري الإنساني أرفع وأعمق مما قدمه الفيلسوف الفرنسي الشهير جان بول سارتر· وفي حقل الكتابة الأدبية الإبداعية أيضا، ربما تفوق عليه الكثيرون في فنون الرواية والمسرحية وغيرهما مما أسهم فيه سارتر· كما لم يكن هو القلم الأرفع شأنا في حقل الكتابة الصحفية التي امتهنها على امتداد ثلاثة عقود من خلال عمله محررا لمجلة الأزمنة الحديثة الممثلة لصوت اليسار الفرنسي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية· كل هذا ممكن ولا يماري فيه سارتر نفسه· غير أنه ما من أحد من فلاسفة وكتاب ومبدعي زمانه يستطيع أن ينسب إلى نفسه أو إلى غيره ما فعله سارتر بقلمه وفكره في تشكيل الوعي وصياغة المواقف حول أعقد القضايا التي طرحت في عصره· ليست القيمة المعرفية الفلسفية المجردة ولا التضمينات الجمالية لما أبدعه من روايات ومسرحيات هما اللذان يعرفان سارتر في تجريدهما المطلق عن القضايا العملية التي أثارها عصره· فالفكر والفن معا في منظورهما السارتري أو الوجودي بالأحرى يتمظهران في تجلياتهما العملية وقدرتهما على صياغة موقف الإنسان من قضية الحرية والوجود الإنساني وتحديد وضع الإنسان على طبوغرافيا هذا العالم المعقد المضطرب· ذاك هو ما فعله سارتر من خلال مجلته المذكورة آنفا على امتداد ثلاثة عقود من الزمان وما عبر عنه بكل حرف من الحروف التي كتبها· وهذا أحد أهم أسباب انتشار فلسفته وأفكاره عالميا· وإن كان لا يمكن الحديث عن القرن العشرين إلا بالوقوف على أبرز ما شهده من إنجازات علمية وتكنولوجية ضخمة وصيحات فنية وأدبية لا يزال صداها يدوي قويا في تيارات ومدارس فن قرننا الحالي، فإنه لا يصح ولا يمكن الحديث عن القرن نفسه بالقفز على شخصية سارتر، أحد أبرز مفكريه وأدبائه الذين شكلوا معالمه ورسموا وجهه· فسارتر هو معلم من معالم القرن يستعصي القفز عليه أو تجاوزه سواء اختلفنا أم اتفقنا معه ·
تلك هي خلاصة الأفكار التي تناولها الكاتب برنار هنري ليفي في كتابه هذا الذي نعرضه تحت عنوان (سارتر: فيلسوف القرن العشرين) وترجمه من الفرنسية إلى اللغة الإنجليزية أندرو براون· صدر الكتاب حديثا في شهر أغسطس المنصرم في طبعة سميكة حوت بين دفتيها 450 صفحة من الحجم المتوسط عن سارتر فيلسوف عصره· يشار أيضا إلى أن الجهة الناشرة للكتاب هي دار (بوليتي) للنشر· يمضي المؤلف في استعراض أهم ما يميز سارتر عن غيره من فلاسفة ومفكري عصره فيقول إن الصفة المميزة لسارتر هي الجرأة والقدرة على الاختلاف والمجاهرة بالرأي المعارض والثبات عنده والاستماتة في الدفاع عنه مهما كلف ذلك وإن كانت حياة الإنسان نفسها· فالوجود هو قيمة لا سبيل للتنازل عنها· أما السياسة في منظورها الوجودي السارتري، فهي ليست وسيلة للإقناع والاستقطاب للمواقف أو صنع السياسات كما تفهم في معناها البراجماتي العام الدارج، وإنما هي تتمثل في قدرة المرء على اتخاذ موقف ما· وكان أكثر ما ناصبه سارتر العداء المستحكم: النفاق والمهادنة والروح التفاوضية التصالحية التوفيقية· بل إن أهم ما ميزه هو التمرد والنأي عن المداراة والتوفيقية التي تتطلبها وتفرضها السياسة العملية البراجماتية· أما في مجال الكتابة فكان عنيدا عصيا يصعب عليه الرضا حتى عما يكتب· وبالكاد يمكن الإشارة إلى عمل واحد من أعماله كان راضيا عنه حتى لحظة دخوله إلى المطبعة وخروجه منها للقراء· فقد كانت جميع نصوصه كتابات ونصوصا مفتوحة لم تكتمل وقابلة للحذف والإضافة المستمرين· في ذلك نقل عنه مؤلف هذا الكتاب الحالي-برنار هنري- أن سارتر وكان قد ناهز الستين من العمر، حذف حوالى2300 صفحة بالتمام والكمال من مؤلفه الضخم عن جوستاف فلوبير قبل أن يعلن أنه لم يكتمل بعد وقال إنه لا يزال بحاجة إلى المزيد من التنقيح والعمل! أما عن نفسه فلم يكن مزهوا ولا راضيا عنها يوما· وكان الزهد نفسه يمشي على قدمين فيما يتعلق بالحظوة بالجوائز ودرجات التقدير التي يأتي بها القلم المفكر والمبدع على أصحابه· فالمعروف في سيرة سارتر أنه رفض قبول جائزة نوبل التي يتطلع للحصول عليها الكثيرون ممن يأخذهم الزهو والاعتداد بقدراتهم وإمكانياتهم· كان سارتر باختصار وفي كلمة واحدة شخصية وكيانا قائما بذاته وغير قابل للطمس في شخصيات الآخرين· كان نسيج وحده كما يقال عادة عن التفرد والاختلاف· وكان فوق ذلك أو بجانبه فرنسيا حتى النخاع إلا أنه ليس كائنا محليا ولا منغلقا على الذات الفرنسية وحدها·
من تجليات وانعكاسات فلسفته الخاصة على حياته الشخصية أنه لم يدخل مطلقا إلى سجن أو قفص الزوجية· فقد أقام طوال حياته علاقات بمختلف المسميات والأشكال، أشهرها وأكثرها رسوخا صداقته الروحية والفكرية الطويلة مع رفيقة عمره سيمون دو بوفوار· فقد كانت هي نفسها مفكرة وكاتبة روائية، وأنجزا معا مجموعة من الأعمال الفكرية المشتركة، إلا أنه لم يورط نفسه معها مطلقا في علاقة زوجية· كما لم تشأ هي نفسها التورط في مأزق الزواج· وفيم