بمناسبة الحادي عشر من سبتمبر، تنافس علينا كلُّ من الرئيس بوش، وأسامة بن لادن· الرئيس بوش من جهته طوّر ثنائيته السابقة (الخير في مقابل الشر)، باتجاه ثنائية جديدة لا تقل عنها هولاً وتعاسة: الحضارة في مقابل الفوضى! ولأنه ما أراد أن يبقى شيء غامضاً، فقد أخبرنا أن الفوضى هي ما يجري في العراق الآن، وكذلك ما يجري في أفغانستان، من جانب الإرهابيين · أما أسباب ذلك أو مبرراته فظلت خارج الصورة· فالأميركيون الذين يواجهون الفوضى الأصولية الآن، بحسب الرئيس بوش، كانوا قد احتلوا البلدين، بعد قصف شديد خرّب ما لم يكن قد تخرب أو سقط بالحصار والغارات عبر سنوات التسعينيات· والذين يقاتلون الأميركيين في البلدين هــــــم مـــن أهلهما، ومـــن حقهم -حتى في القانون الدولي الوضعي- أن يقاوموا المحتلين· ويقول الرئيس بوش والمسؤولون الآخرون إن العراق صار الساحة الرئيسية لمقاتلة الإرهاب! فلماذا كان ذلك؟ أليس لأن الأميركيين احتلوا العراق، باعتبار أنه يشكل خطراً على أمنهم وأمن العالم؟ فهل الخطر الحالي الآتي عليهم من العراق أكبر الآن أم من قبل؟ ثم ما علاقة أفعال الأميركيين في العراق وغير العراق بالحضارة؟
لكن في الوقت الذي كان فيه الرئيس بوش يتوعدنا بالحضارة
والفوضى إن لم نخضع للولايات المتحدة، كان قرينه أسامة بن لادن يظهر في تسجيل مصوّر مع الظواهري في جبال أفغانستان وهما يتمشيان مرتاحين، وتأتي تسجيلات لكلمات لهما، يتلوها تسجيل لأحد منفذي هجمات الحادي عشر من سبتمبر في صيغة وصية · ناشرو شريط ابن لادن والظواهري والغامدي اعتبروا ذلك خبطة إعلامية، كسفت فعلاً الحملة الأميركية في الذكرى الثانية لهجمات سبتمبر· الأميركيون يطلبون المساعدة من العالم ضد الإرهاب العراقي، في حين ما استطاعوا حتى الآن النيل من ابن لادن، ولا من صدام حسين، على رغم أنهم خربّوا بلدين اثنين كبيرين، من أجل هذا الغرض، وهذا فشل ما بعده فشل! على أن الفشل الأميركي، لا ينبغي أن يلهينا عن الفشل الآخر، فشل الأصولية الإسلامية، وفشلنا نحن العرب والمسلمين في التفكير والتصرف، قبل النعي على الأميركيين وبعده· فبرنامج ابن لادن والظواهري والغامدي··· إلخ يمكن تركيزه في ثلاث نقاط: استمرار الصراع بين التوحيد والشرك· ومهاجمة الحكام العرب والمسلمين في ديارهم لأنهم كفار وإن صلوا وصاموا· وحصر الجهاد ضد هذا الكفر الشامل بالقلة المؤمنة التي يقودها هو وأمثاله· والواضح أن التشخيص للمشكلة خطأ، كما أن تكفير المجتمع والدولة جريمة، ثم من كلفه هو والظواهري بالقتال باسم الإسلام؟! كيف يمكن فهم المشكلات السياسية والاقتصادية بيننا وبين الولايات المتحدة باعتبارها مشكلات بين التوحيد والشرك؟! فحتى الدولة الإسلامية التي كانت تقسم العالم إلى دار إسلام ودار حرب، ما كانت تعتبر مشكلاتها مع العالم أو علاقاتها به قائمة على الإيمان والكفر· وفقهاء المذاهب الثلاثة الكبار: أبوحنيفة، ومالك، وأحمد بن حنبل، اعتبروا أن علة الجهاد أو مبرر مشروعيته العدوان أو خوفه، وليس مبرره الكفر أو أن الناس ليسوا مسلمين· لكن حتى الشافعي، الذي أجاز المجاهدة بعلة الكفر، إنما قصد مجاهدة الجيوش، وليس الناس العاديين· وما يزال ابن لادن والظواهري يعيشان على أمجاد 11 سبتمبر التي كانت ضرباً بحتاً للمدنيين الذين ما أساءوا بشيء للمسلمين، بل إن أكثرهم لا يعرفون شيئاً عن خلاف ابن لادن مع أميركا· ثم أين هو الإنسان العاقل الذي يعتبر الآن أن علينا مجاهدة العالم بداعي الشرك؟ أو أن أميركا إنما تخاصمنا لأننا من أهل التوحيد؟!
ونصل إلى الأمر الآخر الذي يوضح ما حصل في الرياض والدار البيضاء· ففي حين انصرف الظواهري في الشريط لتهديد الولايات المتحدة بأن ما حصل هو أول الغيث، انصبّ هجوم ابن لادن على الحكام المسلمين الذين اعتبرهم كفاراً وإن صلوا وصاموا! وهذا إسلام جديد أيضاً· ففي الصحاح أن الناطق بالشهادتين مسلم وإن لم يؤدّ الفرائض أو ارتكب المعاصي، فكيف إن أدى الفرائض؟ ولا نريد هنا طبعاً المضي في الجدال إلى نهاياته· فنحن نعرف أن الرجل يقصد بكفر الحكام كما قال أمرين اثنين: أنهم لا يطبقون الشريعة، وأنهم يخضعون للأميركيين· لكن إسلامنا هو إسلام الجماعة، وهو حاضر وقوي فينا، وحتى مسألة الحدود التي يركز عليها الصحويون والإحيائيون مطبقة في السعودية التي فجر فيها هؤلاء مجمعات سكنية قتلوا فيها أناساً كثيرين من الموحدين والمصلين والصائمين· ومعروف في فقهنا القديم والحديث أن المرء مؤاخذ بإقراره، وما دام هو معترفاً أو معلنا أنه مسلم فليس من حق أحد تكفيره أو مقاتلته (أي اعتباره حلال الدم والمال)· ومرة أخرى، لأن الأمر سياسي وليس دينياً في الحقيقة، يعلم الأصوليون المجاهدون أن التخريب والتفجير وقتل المدنيين أو حتى رجالات السلطة ليس الطريقة الملائمة للإصلاح·لقد حولوا بتفجيراتهم المشكلة مع السلطات إلى مسألة أمنية، يلجأ فيها الناس إلى تلك السلطات من أجل حمايتهم، وبذلك قوّوا ويقوّون السلطات وأجهزتها، ويقربون