في يوم 11 سبتمبر، اتخذت الحكومة الإسرائيلية قراراً، من حيث المبدأ ، يقضي بالتخلص من الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات وإخراجه من الأراضي في موعد من المقرر تحديده في وقت لاحق· وقد أتى في أعقاب القرار بيان أدلى به إيهود أولمرت ، نائب رئيس الوزراء، وقال فيه إنه سيتم، عند الضرورة، قتل عرفات·
وسرعان ما لقيت الفكرة رفض وزير الخارجية الاسرائيلي شالون · وقد أتت ردود الفعل الرسمية المتناقضة في أعقاب التفجيرات الانتحارية التي وقعت يوم 9 سبتمبر وقتلت 27 إسرائيلياً· وقد كان الصخب السياسي أمراً متوقعاً، إذ أن إسرائيل تلقت تحذيرات من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة من مغبة اتخاذ إجراء ضد عرفات؛ وهكذا أصبح عرفات نفسه مرة أخرى مركز اهتمام وسائل الاعلام، وها هو كعادته يجد متعة بالغة في ذلك· والاسرائيليون أنفسهم منقسمون حول الحكمة من تلك الفكرة: فإذا كان عرفات على هذا القدر من الأهمية، فإن التخلص منه سيزيد الأمور سوءاً على سوئها؛ وإذا لم تكن له أهمية، فلم لا يتركونه وشأنه؟
وتبقى خارج دائرة الحل المشكلة الجوهرية المتمثلة بتحدي هوية من يتحدث بلسان الفلسطينيين في المفاوضات الرامية إلى تحقيق تسوية سياسية· ذلك أن عرفات هو الزعيم المنتخب للشعب الفلسطيني، لكنه على رغم ذلك عقبة خطيرة أمام تحقيق أي تقدم، باعتبار أنه لن يعطي صلاحيات حقيقية لمرؤوسيه بمن فيهم رئيس الوزراء السابق محمود عباس والجديد اللاحق أحمد قريع المعين حديثاً· ذلك في حين ترفض إدارة بوش وإسرائيل التحدث إليه وتمارسان ضغوطاً شديدة على الاتحاد الأوروبي لمقاطعته· غير أن الاتحاد الأوروبي يتحجج بأن المقاطعة لن تؤدي إلاّ إلى تعزيز قوة عرفات وإضعاف المعتدلين من أمثال عباس وقريع·
ولا يبدي عرفات أية رغبة في تسهيل الأمور على خصومه باستقالته، ولذا لن يكون في هرم السلطة الوطنية الفلسطينية أحد يتحداه في هذا الوقت· وإذا مضت إسرائيل في تنفيذ تهديداتها بالتخلص من عرفات، فإن الاضطراب السياسي سيصبح عالمي النطاق، ومن الممكن أن يؤدي ذلك إلى إضعاف الموقف الأميركي في العراق باجتذاب المزيد من العنف المعادي لها في وقت تتعرض فيه إدارة بوش إلى انتقادات حادة بسبب معالجتها لعراق ما بعد الحرب· والجميع يعلمون أن التقدم، إلى حين تهميش عرفات أو التخلص منه، سيكون ضئيلاً فيما يتعلق بتنفيذ خريطة الطريق التي وضعتها الرباعية الدولية· وفي أثناء ذلك سيتواصل تدهور الظروف المعيشية للفلسطينيين، بما في ذلك اشتداد حدة الفوضى في بعض المدن إضافة إلى تسريع وتيرة بناء الجدار الأمني الذي تشيده إسرائيل· وستكون الحصيلة المحتومة مزيداً من العنف والتوتر·
إن الحل الأفضل، إلى جانب وفاة عرفات بسلام في أثناء نومه، يقتضي من الفلسطينيين أنفسهم، بدعم من البلدان العربية الرئيسية، أن يقنعوا عرفات بالاستقالة أو التنحي ومزاولة عمل تجاري إكراماً لخاطر شعبه والدولة الفلسطينية· غير أن حدوث ذلك يقتضي من الحكومة الإسرائيلية أن تقدم بعض الالتزامات الحسنة النوايا، مع ضرورة وجود ضمانات أميركية لاستئناف المفاوضات واتخاذ خطوات حول المسائل التي تهم الفلسطينيين بما فيها إطلاق سراح المزيد من السجناء الفلسطينيين وإزالة نقاط التفتيش الرئيسية وإيقاف التوسع الاستيطاني·
كما ينبغي على إسرائيل أن تكون أكثر صراحة فيما يتعلق بحدود الدولة الفلسطينية وأن تبدد مخاوف الفلسطينيين من أنهم سيكونون في نهاية المطاف مسجونين في سلسلة من الجيوب المعزولة المطوقة بالأسيجة والجدران والمستوطنات الإسرائيلية· غير أن إسرائيل ليست مستعدة لإطلاق هذه البوادر حتى تتلقى الضمانات التي تكفل أن الزعامة الفلسطينية الجديدة ستقوم أخيراً بمطاردة الجماعات الإرهابية من حماس و الجهاد الإسلامي · ولن يستطيع أي زعيم فلسطيني اتخاذ مثل هذه الإجراءات حتى يحصل الفلسطينيون على تنازلات ملموسة من الاسرائيليين تثبت للفلسطينيين أن لمطاردة الجماعات الراديكالية فوائد سياسية·
وهكذا تستمر الحلقة المفرغة التي لا تنتهي بين تهديدات وتهديدات مضادة واقتراحات واقتراحات مضادة· وإذا كانت إدارة بوش حقاً مدفوعة برغبة في التدخل بثقلها في هذا النزاع ومستعدة لاستخدام الرأسمال السياسي الحقيقي، فقد يكون ممكناً عندئذ تحقيق تقدم ذي شأن· غير أن بوش مشغول البال بهم العراق وبكيفية تحسين أرقامه الانتخابية التعيسة في بلاده فيما يتعلق بإدارة اقتصاد الولايات المتحدة الأميركية· وفي هذه النقطة، من غير المرجح أن يتم إحراز تقدم إلى حين يرحل عرفات أو إلى حين يمضي شارون ضد إرادته ويقدم تنازلاً كبيراً من أجل تسوية نهائية وعادلة· لكن شارون باق في مركز السيطرة والتحكم بإسرائيل، ولذا من غير المرجح أن يحدث تغيير في الحكومة في القريب العاجل· وربما يكون مفروضاً أن تنتظر الأزمة الفلسطينية إلى ما بعد الانتخابات الأميركية: فإذا تم انتخاب جورج دبليو بوش مرة أخرى وصار يشعر بالثقة بأن العراق في وضع مناسب، فإن من الممكن له عندئذ أن يستخدم منصبه لفرض حل ما؛