ديفيد إل· فيليبس*
يقول النقاد إنه لم تكن لإدارة بوش خطة محددة ومدروسة لعراق ما بعد الحرب· لكن في الواقع فقد كان مئات العراقيين طرفا في المناقشات التي جرت في واشنطن حول كيفية إعادة الأمن والاستقرار إلى وطنهم عقب انتهاء العمل العسكري· وما نرى من مصاعب تكتنف هذه العملية اليوم، لا علاقة له بغياب بعد النظر، بقدر ما هو متعلق بضعف وسوء تقديرات المدنيين العاملين في وزارة الدفاع البنتاجون التي عولت كثيرا على نصائح عراقي واحد هو أحمد جلبي زعيم المؤتمر الوطني العراقي· في المقابل فقد أغفل هؤلاء المسؤولون رأي وزارة الخارجية الأميركية ومعها سبع عشرة وكالة أخرى إضافة إلى آراء وتقديرات قادة عراقيين آخرين أكثر موثوقية· أشير هنا إلى ما يسمى مشروع العراق الذي كان يفترض فيه أن يضم عراقيين من شتى الفصائل العرقية والدينية، بمن فيهم ممثلون عن الجالية العراقية في المنفى· وقد قسم المشروع إلى مجموعات عمل مختلفة تعمل على موضوعات تمتد من الزراعة إلى الاقتصاد وحتى الهيكلة المقترحة لجهاز الدولة الجديد· وكنت حينها أعمل بصفة مستشار لمجموعة مبادئ العمل الديمقراطي التي سماها العراقيون المشاركون في تلك المجموعات أم اللجان · ولما كانت اللجنة قد اضطلعت بمهمة التكهن بنوع وطبيعة المشكلات والتحديات التي يمكن أن تقف عقبة في طريق عملية إعادة البناء، فقد أسهم المشاركون في العمل على خطط تستهدف الحفاظ على الأمن واستعادة القطاع الخدمي وتذليل عملية الانتقال إلى الديمقراطية بوجه عام· ومن بين ما أسهم به المشاركون تحديد رؤية واضحة لكيفية إصلاح الجيش العراقي· وكان من رأيهم ضرورة التمسك بحل الأجهزة وتسريح الأفراد المتورطين في ارتكاب الفظائع وجرائم حقوق الإنسان بحق المواطنين العراقيين وفتح تحقيقات حول هذه الجرائم· وقد انحصرت الاقتراحات تحديدا في حل جهاز الأمن والشرطة السرية والمخابرات، علاوة على المطالبة بإعداد قائمة بأسماء أكثر المطلوبين للعدالة وإنشاء محاكم خاصة لمحاكمة مجرمي الحرب· كما اقترح المشاركون إنشاء مجلس عسكري تكون مهمته إصلاح المؤسسة العسكرية واتخاذ الخطى اللازمة لتوجيهها نحو الحرفية والمهنية العسكرية البحتة الخالية من الاعتبارات السياسية والآيديولوجية التي كانت تسيطر عليها أيام حكم البعث· من جانبهم ادعى ممثلو المؤتمر الوطني العراقي إدارتهم لشبكة سرية واسعة في البلاد، سيكون في وسعها مد يد العون لقوات التحالف الدولي في عملية استتباب الأمن وتنفيذ القانون في عراق ما بعد الحرب· وعليه فقد أصر ممثلو المؤتمر الوطني على تسريح الجيش العراقي بكامله عقب الحرب مباشرة· وتحت ذلك الإلحاح، وافقت وزارة الدفاع على هذا الاقتراح تاركة بذلك للكثير من الجنود العراقيين خيارا واحدا هو حمل السلاح ضد قوات التحالف، بينما كان ممكنا للكثيرين منهم حمل السلاح في وجه النظام القمعي الذي كان لا يأبه لحياتهم هم أو لمصير أسرهم وأطفالهم·
وحين جاء الجد لم يكن هناك وجود فعلي لتلك الشبكة الوهمية التي وعدت بها جماعة أحمد جلبي، وبدا أن حفظ الأمن هو واجب يقع على قوات التحالف وحدها· فكانت النتيجة ما ساد الأيام الأولى لنهاية الحرب من أعمال نهب وسلب وتخريب للمرافق العامة واعتداء على الممتلكات الخاصة· وأسهم الفراغ السياسي الذي أعقب انهيار النظام السابق في زيادة أعمال النهب وانفلات الأمن وتصاعد الهجمات على القوات الأميركية·
وكان من تقدير مجموعات العمل المشاركة في ورشة مشروع العراق أنه يمكن كسب ود المواطنين العراقيين العاديين عن طريق إعادة المرافق الخدمية من صحة وتعليم وأوضاع معيشية ومياه شرب وغيرها إلى وضعها الطبيعي السابق للحرب، بل وتحسينها إلى أفضل مما كانت عليه في أيام صدام حسين· ضمن هذا التصور كان من تقدير المجموعات الأخرى، أنه لا بد من الاستفادة من بعض عناصر التكنوقراط المنتمين إلى حزب البعث والاستفادة من خبراتهم الإدارية في هذا المجال· انبنى هذا المطلب والتصور الواقعي على افتراض أن البعثيين لا يمكن وضعهم جميعا في سلة المجرمين، وأنه يمكن تحديد قائمة بالمجرمين منهم ومحاكمتهم· أما مجموعة أحمد جلبي فكان لها الرأي النقيض والمفارق· فقد افترضت ضرورة النظر إلى أي عضو من أعضاء البعث على أنه مجرم وملطخ اليدين بدماء العراقيين وجرائم الحرب· ولما كانت الغلبة هذه المرة أيضا لرأي مجموعة أحمد جلبي، فقد قررت السلطة المؤقتة في العراق استبعاد وجوه حزب البعث وفصل الكثيرين جدا من عناصره وأعضائه من وظائفهم الحالية· والنتيجة الطبيعية أن بقي ملايين العراقيين اليوم بلا خدمات مياه شرب ولا كهرباء، علما بأن الأمرين بالذات كان النظام العراقي السابق لا يتهاون في توفيرهما لكافة شرائح المواطنين بلا استثناء·
الأهم من ذلك كله أن المجموعات أقرت مبدأ توسيع المشاركة في الرأي داخل وخارج العراق، بغية ضمان بناء ديمقراطية حقيقية ومستقرة في عراق ما بعد الحرب· وبناء على هذا المبدأ لا يجوز لعراقيي المنفى وحدهم الانفراد بالتحدث باسم كافة