جون كافانا* و روبين برود*
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعد مرور جيل من الآن، سوف ينظر المحللون إلى قمة منظمة التجارة العالمية التي عقدت في كانكون بالمكسيك، باعتبارها نقطة تحول فاصلة في الجدل الدائر حول العولمة، والذي يزداد احتداما باستمرار·
لماذا؟ لأنه لأول مرة خلال عقود تكسب الديمقراطية المعركة مع المصالح الضيقة للنخبة· ولأول مرة تتفاوض الهند والبرازيل والصين، وما يزيد على 20 دولة أخرى من الدول الفقيرة، التي تمثل ما يزيد على نصف عدد سكان المعمورة ،ككتلة واحدة· فبمساعدة من مجموعة واسعة من الجماعات المدنية في أوطانها، رفضت هذه الدول النص الختامي للقمة، الذي تمت صياغته كالعادة لخدمة مصالح الشركات الكبرى التابعة للدول الغنية· باختصار يمكن القول إن الأغلبية قد قامت بتحويل مسار أجندة المؤتمر التي وضعتها الأقلية· ومعظم هذه الدول التي أصبح يطلق عليها الآن مجموعة الإحدى والعشرين قامت بذلك استجابة لحملات قوية من الجماعات المدنية في دولها كان غرضها، إحداث تغيير جذري في أجندة العولمـــة· ومما يتعــــين علينا ذكره أننا -نحن كاتبا هذا المقال- قد أمضينا فترة الصيف، ونحن نجوب أرجاء أحد هذه البلدان، وهو الفلبين في الوقت نفسه الذي كان المزارعون الصغار، والعمال، والناشطون المناوئون للفقر يقومون فيه بالضغط على حكومتهم كي تنهض لتحمل مسؤوليتها في الدفاع عن مصالحهم، أثناء انعقاد قمة منظمة التجارة العالمية·
كانت الرسالة التي وجهها هؤلاء لحكومة الفلبين بسيطة وتمس جوهر أجندة منظمة التجارة العالمية وهي:
- لا تدعو كراجيل وغيرها من الشركات الزراعية العملاقة في الدول الغنية، تستخدم الإعانات السخية التي تقدمها حكوماتها لإغراق أسواقنا بالذرة والأرز والقمح الرخيص، ولإزاحة المحاصيل المحلية التي يعتمد عليها عشرات الملايين من الفلاحين في عيشهم·
في عصر شركات مثل إنرون ، و ورلد كوم ، يجب ألا تخضعوا لمطالب حكومة الولايات المتحدة و شركاتها الكبرى، فيما يتعلق ببيع الخدمات العامة الحيوية مثل الرعاية الصحية والتعليم، والمياه، لهذه الشركات ·
- لا توافقوا على الدخول في المزيد من المفاوضات، التي ستساعد على زيادة القيود التي تكبل قدرة الحكومة على توجيه الحوافز بعيدا عن الشركات الأجنبية، وتحويلها لمصلحة الشركات المحلية الأصغر حجما· ويذكر هنا أننا قد قابلنا هؤلاء الناشطين الفلبينيين في قمة المكسيك مرة أخرى، وذلك عندما انضم إليهم عدد من المحتجين يتراوح ما بين عشرة آلاف إلى عشرين ألف محتج على أعمال القمة سواء في المكسيك، أو في باقي دول العالم· وقد حالت المتاريس التي وضعتها الشرطة المكسيكية التي احتشدت بالآلاف لحماية اجتماع القمة دون وصول المحتجين إلى مقر الاجتماع، الذي عقد في واحد من أكثر فنادق العالم فخامة، لمناقشة ما قام المفاوضون بوصفه دون حياء بـ أجندة التنمية · وبسبب الشعور بالإحباط نتيجة للمتاريس، والقواعد غير العادلة المطبقة في الاجتماع، الذي كان جنود الشرطة المكسيكيون يقومون بحمايته، قام مزارع كوري جنوبي بالانتحار عن طريق إغماد سكين في صدره في اليوم الافتتاحي·
وفي الرسالة التي تركها قال السيد لي وهو اسم ذلك المزارع الكوري، إنه قرر وضع حد لحياته ليكون ذلك بمثابة احتجاج مأساوي على قيام الشركات المتعددة الجنسيات، وعدد محدود من مسؤولي الدول الأعضاء الكبار في منظمة التجارة العالمية، بقيادة عولمة غير مرغوبة وغير إنسانية، ومشوهة للبيئة، وقاتلة للمزارعين، وغير ديمقراطية ·
كما نعت الرسالة المقتضبة التي تركها المزارع المنتحر أيضا إغراق أسواق الدول الفقيرة بالمحاصيل المدعومة للشركات الكبرى التابعة للدول الأكثر غنى· وطالب لي في رسالته بمنظومة تجارية عولمية تسمح للدول الفقيرة بتقديم حماية كافية لمزارعيها· وعلى رغم أن النقطة التي احتدم حولها الجدل، في اجتماع منظمة التجارة العالمية كانت هي الزراعة، إلا أن التمرد الذي تم بطريقة ديمقراطية كان يستهدف ما هو أكبر من ذلك بكثير حيث قام مفاوضو الدول النامية في أروقة المؤتمر، والمحتجون في الشوارع، برفض نموذج التنمية القائم على مبدأ المقاس الواحد الذي يصلح للجميع ، الذي تريد منظمة التجارة العالمية تطبيقه، على رغم أنه من مخلفات الحقبة الريجانية الغابرة· وقد وصف رجل المال والأعمال جورج سوروس هذا المبدأ بأنه يعتبر نموذجا لـ الأصولية السوقية · إن نجاح الدول الفقيرة، وشعوبها التي تزداد قلقا باستمرار، في تحويل مسار أجندة العولمة الفاشلة عن مسارها، لا يعني أنها ترفض القواعد العالمية المتعلقة بالتجارة والاستثمار، وإنما يعني العكس تماما، حيث قامت تلك الدول بتقديم مقترحات عدة تهدف إلى تغيير نهج منظمة التجارة العالمية المتقادم، واستبداله بقواعد وأنظمة ومؤسسات أخرى أكثر عدلا· فعلى سبيل المثال، وفي هذا السياق نفسه، قام قادة الجماعات المدنية تحت رعاية المنتدى الدولي المختص بالعولمة باقتراح قواعد، ستسمح للحكومات بوضع