لو قلت للبعض في هذا اليوم كل عام وأنتم بخير لاستغرب هذه التحية، لأن السنة الميلادية قد فات وقت التهنئة بها، لكنني أقول للجميع كل عام وأنتم بخير لأننا بدأنا العام 1428 من هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام. وإذا كان الناس يحتفلون بالعام الميلادي بشيء من الصخب الذي يخرج في كثير من الأوقات حتى عن الذوق العام، فإن العام الهجري يمر على بعض الدول العربية وكأنه لم يكن. وإن كان هناك من احتفالات، فهي رمزية ودينية في معظم الأوقات، وفي ثناياها لا تجد معنى للاحتفال لأن بعض العلماء تأبى عليه نفسيته إلا تذكير الناس بالويلات والثبور، والمصير الذي ينتظرهم عند القبور حتى وهم في مثل هذه الاحتفالات، مما دفع الكثير من الناس إلى الابتعاد عن مثل هذه الاحتفالات الدينية، رغم أن الأصل في الاحتفال هو الفرح بمثل هذه المناسبات، ولا بأس من التذكير ببعض الأمور بشرط ألا تحول الفرح إلى حزن. لما اختار المسلمون هجرة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام كموعد لبدء التقويم العربي أو الهجري، كانت لهم حكمة لا نعرفها، لكن من اجتهد في هذا الميدان يقول بعظم هذا الحدث في قيام الدولة العربية الإسلامية، نعم فهناك أحداث سبقت الهجرة وربما كانت أهم منها كبدء الوحي في النزول من السماء إلى الأرض مؤذناً بالإسلام في آخر حلة له، أو الانتقال من الدعوة السرية إلى الجهرية في مكة، وغير تلك من الأمور التي كان بالإمكان البدء بها والانطلاق منها لسنة جديدة، لكن المسلمين قالوا بأهمية الهجرة ولنا معها وقفات. الهجرة تعني الانتقال وله شقان مادي ومعنوي، فالجانب المادي ينتقل به الجسد من مكان إلى آخر، أما المعنوي فهو القصد من الانتقال، وهو المهم في هذه الفترة من حياة الأمة، ففي الحديث "إنما الأعمال بالنيات ولكل إمرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه"، أو كما قال عليه الصلاة والسلام. فالواجب علينا كمسلمين في هذه المناسبة أن نخطط لنوع من الهجرة في حياتنا تنقلنا من حياة إلى أخرى أفضل منها، فالمسلم مطالب بالسعي نحو الأفضل والأحسن وهذه المسألة ميدانها الحياة بمفهومها الواسع، فهناك هجرة عقدية تتم من الكفر إلى الإيمان، وهذا ما نراه اليوم من إسلام غير المسلمين، وبالذات من الغربيين الذين اكتشفوا الحاجة للهجرة من عقيدة شابها التحريف إلى عقيدة السماء. وهناك هجرة سلوكية في حياة المؤمن، تتمثل في هجرته لما حرم الله لأن ميدان الحلال أوسع وأطيب وأسعد مما حرم الله تعالى، فكم من المؤمنين الذين جمعوا أموالاً محرمة عليهم لم يذوقوا بسببها السعادة، فلمّا هجروا هذا الواقع إلى ما أحل الله، بارك الله لهم في مالهم وأورثهم سعادة في قلوبهم هي سعادة الهجرة من الحرام إلى الحلال. والدرس الثاني من الهجرة، والذي من الواجب الانتباه له، هو ما قام به الرسول عليه الصلاة والسلام فور وصوله إلى المدينة المنورة حيث بنى المسجد كي يكون مقراً للعبادة والحكم يعرف الناس عندها إلى أين يتجهوا ومع من يتحدثون كما قام عليه الصلاة والسلام بتقوية البيئة الداخلية بالصلح بين الأوس والخزرج والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وكان أول دستور للمدينة المنورة ينظم العلاقة الداخلية بين سكان المدينة من المسلمين وغيرهم، تمثل هذا الدستور في الصحيفة التي تم إقرارها. كل هذا يشير إلى أهمية الوحدة الوطنية كما تسمى اليوم، ففي الهجرة درس لأهمية هذا الأمر فلا يوجد أسوأ من دولة تنازعتها الأحزاب والجماعات كما نرى اليوم من حولنا، وقبل الوداع أقول للجميع كل عام وأنتم كأفراد ووطن بخير.