جاءت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس إلى المشرق العربي بعد إعلان الرئيس بوش عن سياساته الجديدة بالعراق. وقد زارت رايس إسرائيل ومصر والأردن والسعودية، ثم اجتمعت بوزراء خارجية الدول الخليجية الست ومصر والأردن بالكويت. في إعلان بوش ليس هناك غير حديثٍ عن العراق، أمّا في اجتماع الكويت فجرى البحث في المشكلات بلبنان والعراق وفلسطين. في العراق كان بوش قد أجمل سياساته أو توجهاته بزيادة عدد القوات الأميركية عشرين ألفاً (تتوزع بين بغداد والأنبار)، والعمل على تحسين شروط مشاركة السُّنة، والتوزيع الأكثر عدالةً لمداخيل الثروة النفطية، ومحاولة الحدّ من النفوذين الإيراني والسوري بالبلاد. والمفهوم أنّ رايس أعطت تفاصيل بشأن الخطة الأميركية الجديدة بالعراق، وأنَّ أكثر الحاضرين ما رأوا في أهداف الخطة أو وسائلها سلبياتٍ بارزة؛ لكنهم ظلوا متشككين في إمكانيات النجاح. فالنفوذ الإيراني بلغ مبلغاً عظيماً في المناطق الشيعية، والإيرانيون يتقدمون منذ شهورٍ باتّجاه كركوك وجوارها بالمنطقة الكردية. وهناك عشرات الألوف من مسلَّحي ميليشيات "المجلس الأعلى" و"حزب الدعوة" و"جيش المهدي". ومسلَّحو "حزب الدعوة" ما شاركوا حتى الآن في المذابح الطائفية أو أحداث وممارسات التهجير والاستيلاء على المناطق. أمّا التنظيمان الآخران ("جيش المهدي" و"قوات بدر") فبالإضافة إلى المشاركة الكثيفة في حوادث التذابُح والتهجير والغنائم والفساد الإداري والمالي، فقد تغلغلوا في الشرطة والجيش، وتعاونوا مع فِرَق الموت. فكيف ستستطيع حكومة نوري المالكي (هذا إن أرادت) أن تعمد لحلّ الميليشيات ونزع سلاحها، والميليشيات هي الحاكمةُ مع الأميركيين حتى الآن؟! لقد ضغطت القوات الأميركية طوال هذه الفترة على مسلَّحي "جيش المهدي" (خصوم "قوات بدر" و"المجلس الأعلى") في الوقت الذي شنّت فيه حرباً شعواء على مقاتلي السُّنة المتشددين وعلى البعثيين وبقايا الجيش العراقي السابق. وهكذا فلاشكّ أنّ المشكلة الرئيسية في "قوات بدر"، والمخابرات الإيرانية. لكنْ هناك أيضاً مشكلة المتشددين السُّنة والمقاتلين الآخرين للقوات الأميركية، والذين ما أمكن حتى الآن التواصُل معهم من أجل التطمين والمفاوضة ما دامت شروطُ تحسين المشاركة ليست واضحة. ثم إنّ هناك مشكلةً أُخرى لدى السُّنة، ليست موجودةً في الجانب الشيعي. ففي الجانب الشيعي تتوافرُ القياداتُ التي يمكن للأميركيين والعرب التحدث إليها ومعها؛ بينما يتحدث كلُّ فريقٍ سُنيٍّ عن نفسه، والفرقاءُ كثيرون، وأكثرهم لا يقبل الحديث مع الفرقاء الشيعة إلاّ بعد خروج الأميركيين من العراق. وأخيراً وليس آخِراً هناك سَيرٌ باتجاه المواجهة مع إيران ومع سوريا ولذلك سيستميتُ الطرفان في الدفاع عن المصالح بالعراق وغير العراق، وسيستخدم هؤلاء كلَّ إمكانياتهم وأنصارهم بالعراق وفلسطين ولبنان. وهذه العواملُ كلُّها أو المشكلات كلّها لا تؤدي إلى نجاحٍ سريعٍ بالعراق بالذات، حتى لو أراد الأميركيون ذلك. وجاء الحديث عن لبنان عاماًّ لكنه إيجابي. فالأميركيون وسائر العرب يريدون دعم لبنان في مؤتمر "باريس-3". وكلُّ الحاضرين في اجتماع الكويت يريدون أن يخرج لبنان من الأزمة السياسية بالجوار اللبناني/ اللبناني. بل إنّ المملكة العربية السعودية تتحدث إلى الإيرانيين وإلى المعارضة والحكومة بلبنان من أجل تجاوُز الوضع الحالي الجامد والمتأزِّم. وهناك وجهتا نظرٍ لدى الأطراف العربية في مآلات الأزمة والنزاع السياسي بلبنان. وجهة النظر الأُولى ترى أنّ إيران وسوريا اللتين بادرتا لإنشاب النزاع مع الولايات المتحدة في حرب يوليو الماضي، ستستمران في استخدام الساحة اللبنانية للضغط على الولايات المتحدة وبخاصةٍ إذا اندلعت النيرانُ بين أميركا وإيران؛ ولذلك لا أملَ في حلٍ سريعٍ للأزمة المشتعلة. ولدى أصحاب وجهة النظر هذه أدلةٌ على هذا الاحتمال أو السيناريو تتمثل في استمرار إيران في تزويد ترسانة "حزب الله" بشتى أنواع السلاح والصواريخ. واستمرار سوريا في تسريب السلاح والمسلَّحين إلى لبنان ولجهاتٍ فلسطينيةٍ وسورية. والمقصود التهديد باستخدام ذلك كلّه ضد إسرائيل إذا ضربت الولايات المتحدة إيران، وضد القوات الدولية بجنوب لبنان، كما استخدام العناصر الفلسطينية واللبنانية الموالية لسوريا في أحداثٍ أمنيةٍ واغتيالاتٍ بلبنان للمزيد من زعزعة الاستقرار. ووجهة النظر الثانية ترى أنّ إيران بالذات تقبلُ بتحييد الساحة اللبنانية لمنع وقوع المزيد من الضرر على الطائفة الشيعية في حال حدوث النزاع؛ بل وقد تقبلُ بتهدئة الساحة اللبنانية لتُثْبتَ للعرب أنها ليست ضدهم ولا تريد ارتهانهم أو ابتزازهم لكي لا يندفعُوا في التحالُف مع الولايات المتحدة ضدَّها. ويستدل هؤلاء لوجهة نظرهم بالإشارات الإيرانية لجهاتٍ عربيةٍ إلى إرادتها التهدئة، وتجنب النزاع السُّني/ الشيعي في كل مكانٍ، وفي الساحة اللبنانية على الخصوص. لكنْ أياً تكن التقديرات؛ فالأرجحُ أن يتبيَّنَ الخيطُ الأبيضُ من الخيط الأسود في الأيام المقبلة، وبخاصةٍ عشية مؤتمر باريس، وتهديدات المعارضة بالتصعيد، وكلام السيد حسن نصرالله زعيم "حزب الله" في ذلك. وكما شهد الحدث العراقيُّ نقاشاتٍ مستفيضةً؛ فكذلك الحدثُ الفلسطيني. فالأميركيون يتحدثون في فلسطين عما يتجاوزُ "خريطة الطريق" إلى الحلّ النهائي، أي إقامة الدولة الفلسطينية ذات الحدود المؤقتة. وتريد رايس العودة حوالي منتصف الشهر المقبل من أجل عقد اجتماعٍ بين أولمرت و"أبو مازن". بيد أنّ هناك مشكلات عاجلة ومستعصية، وأخرى آجلة ومستعصية أيضاً؛ ولدى الطرفين. هناك مشكلة المستوطنات والتي لا تفيدُ في حلِّها الكلمات المتقاطعة مثل "الحدود المؤقتة"، فماذا نفعلُ بمسألة مستوطنات الضفة الغربية بعد خمس سنوات، وكذلك مشكلة القدس؟! وماذا نفعل باستمرار الوجود الإسرائيلي بين فلسطين والأردن، وبين فلسطين ومصر؟! وماذا نفعل بالسور الواقي والذي أكل من أراضي الضفة الغربية الضيّقة بقدر ما أكلت المستوطنات؟! وماذا نفعل بمشكلة المياه، والتي تتجرع إسرائيل أكثر من نصفها بالضفة؟! أمّا أهمُّ المشكلات الآجلة فمشكلة اللاجئين. لكنْ هناك أيضاً مشكلةٌ حاضرةٌ مع بدء التفاوُض إنْ كان. فأولمرت ضعيف، وحكومته مهدَّدة، والفلسطينيون منقسمون انقساماً لا شفِاءَ منه. ولذلك يحاول "أولمرت" تنظيم صفوف حكومته، كما يحاول "أبو مازن" إجراء جولةٍ أخيرةٍ من المحادثات مع "حماس" لإقامة حكومة الوحدة الوطنية العتيدة من طريق زيارة سوريا ورؤية خالد مشعل. لكنْ هل تقبل "حماس" بالتفاوض مع إسرائيل بشأن الدولة بدون الاعتراف بها؟! بل هل تستطيع "حماس" قبول حكومة الوحدة الوطنية وإيران وسوريا لا تريدان ذلك الآن، كما تفعلان بلبنان؟! إنّ المشكلات بكلٍ من فلسطين والعراق ولبنان، هي مشكلاتٌ عربية. وقد تسبّبت الولايات المتحدة وبشكلٍ مباشرٍ في المأزق بالعراق، بينما لإيران وسوريا تدخُّلاتٌ في العراق ولبنان. وهكذا فالأميركيون معتدون على المصالح العربية، وكذلك الإيرانيون؛ بينما تلعبُ سوريا دوراً سلبياً في كل مكان. وقد اختارت الولايات المتحدةُ دخول العراق بالتوافُق مع إيران، وهي تريد الآن مواجهتها، فتردُّ إيران بالتوتير في كل مكان. وهكذا لا بديل عن سياساتٍ عربيةٍ على أساس تحديد المصالح والتنسيق، والطلب من إيران والولايات المتحدة احترام تلك المصالح. أمّا الأمر الآخر البديهي فيتمثل في دفع العرب باتجاه الحوار الداخلي والتوافُق الداخلي في كلٍّ من العراق ولبنان وفلسطين؛ أو تظلَّ تلك البلدان رهائن أو مجالاتٍ للابتزاز، أو ساحاتٍ للمعارك، في كل أزمةٍ في المنطقة. إنّ القضية العربية الجديدة تتمثل في ظهور الانقسامات والانشقاقات الداخلية. والذي أراه أنّ هذه الانقسامات لا تنحصر علتُها بالتدخلات الإسرائيلية والأميركية والإيرانية. نريد أن يبقى الخليجيون والمصريون معاً على الأقلّ لكي يستطيعوا صون أنفسهم ومصالحهم، ولكي يستطيعوا مساعدة العراقيين واللبنانيين والفلسطينيين. ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.