أشباح الحروب الأهلية
أتت التطورات المتسارعة في الآونة الأخيرة، والتي تهدد بجرِّ أكثر من دولة ومجتمع من حولنا، بالانزلاق نحو اقتتال طائفي وعبر تضاريس مذهبية وإثنية وعرقية، لتعطي زخماً جديداً لتحذيرات وتنبيهات العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني من خطورة اندلاع ثلاث حروب أهلية في المنطقة، وتوصيف خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز عند افتتاحه القمة الخليجية في ديسمبر الماضي من أن المنطقة فوق برميل بارود قابل للاشتعال. وهذا هو فعلاً ما يدفع إليه الانزلاق المخيف نحو حرب مذهبية مدمرة في العراق، ونذر حرب شهدنا فصولها على شاشات الفضائيات خلال الأيام الماضية في لبنان فيما ينذر بتفاقم الأوضاع هناك بإعادة عقارب الساعة للربع الأخير من القرن الماضي، أي إلى أيام الحرب الأهلية، التي ملَّها ولا يرغب في عودتها الشعب اللبناني، الذي لا زال يعاني من مضاعفاتها وانعكاساتها حتى اليوم.
لقد شهدتُ بأم العين، وأنا أقضي إجازتي الشتوية في منزلي في بيروت بألم وعدم تصديق التدهور الأمني وعمليات الكر والفر في الأحياء والشوارع. وشهدت الحرائق وتدمير السيارات في الحي الواحد بين مناصري "حزب الله" الشيعة، وموالي "تيار المستقبل" السُّنة، في انزلاق وتدهور كلي، وفقدان للثقة بين أبناء البلد الواحد، فيما كان رئيس الوزراء فؤاد السنيورة ضيف الشرف في باريس وبمبادرة وبتبنٍّ من الرئيس شيراك، وبحشد غير مسبوق، يجمع أسخى وأكبر دعم في تاريخ لبنان. حيث وصل مجمل الأموال بين قروض ومساعدات وهبات من دول عربية وغربية ومنظمات دولية إلى 7.6 مليار دولار، لتذهب لجميع اللبنانيين وليس لفئة على حساب أخرى.
مشكلة لبنان كانت على الدوام عدم تطور النظام من النظام الطائفي منذ قيام الدولة عام 1921، واستمراره على خطوط الطائفية والمحاصصة، وما يسميه اللبنانيون "الديمقراطية التوافقية" للتغطية على ضعف وهشاشة النظام. هذا الوضع جعل من لبنان مسرحاً وأرضية خصبة للاستقطابات والصراعات وتصفية الحسابات الإقليمية، والتي تكون في أحيان كثيرة على حساب ومصلحة واستقرار لبنان نفسه.
وكما هو واضح اليوم في الأزمة اللبنانية فإن الحل ليس لبنانياً بل هو في ما يمكن أن يتم التوصل إليه في الخارج. ورأينا في الأيام الأخيرة التحركات والزيارات التي قام بها أمين عام مجلس الأمن القومي الإيراني علي لاريجاني إلى المملكة العربية السعودية، وزيارة الأمير بندر بن سلطان إلى طهران، والتحرك لاحتواء الأزمة في لبنان، والدعم السياسي والمالي الكبير الذي حصل عليه لبنان من مؤتمر "باريس 3".
أما في الأراضي الفلسطينية فإن تداعيات الاقتتال والصراع بين الإخوة الأعداء في حركتي "حماس" و"فتح" تنذر بالمزيد من الانشقاق والحرب بين الحركتين، وتدفع نحو الأسوأ مع انسداد أفق التسوية، وتعثر محاولات قيام حكومة وحدة وطنية.
والآن في الذكرى الأولى لفوز "حماس" في الانتخابات، ما زالت محاولات تشكيل حكومة الوحدة متعثرة، وتزداد احتمالات الدخول في مواجهة مع "فتح" في الداخل، ومع إسرائيل وأميركا والمجتمع الدولي في الخارج، الذي يصنف "حماس" كمنظمة إرهابية، وحيث تتم معاقبة الشعب الفلسطيني برمته على قرار أغلبيته بالتصويت لـ"حماس" في الانتخابات التشريعية الماضية.
ولا يبدو، بعكس حالة لبنان، أن هناك مساعٍ للوساطة بين الفريقين المتناحرين تساهم في حقن الدماء الفلسطينية.
لاشك أن أزمات الحروب الأهلية التي تطلُّ برؤوسها البشعة في العراق ولبنان وفلسطين، حتى لا نتكلم عن السودان والصومال، تساهم أكثر فأكثر في إضعاف النظام الإقليمي العربي، وفي زيادة حدة الخلافات، وتقوي القوى غير العربية المحيطة بنا، من إسرائيل وإيران إلى تركيا. ولاشك أن تنبيه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله قبل يومين في صحيفة "السياسة" الكويتية، إلى الضرورة حل القضايا العربية بأيدينا، وليس بأيدي الآخرين، يمثل صرخة بحاجة إلى أن تؤخذ من قبل الجميع على محمل الجد.
لا يمكن تجنب أشباح الحروب الأهلية إلا بحلول داخلية في كل دولة تضمن إشراك القوى الفاعلة دون تهميش أو إلغاء للآخر، ودون أن ينجح النظام العربي في تحصين دوله، ومنع القوى الأخرى من التدخل والتأثير على مجريات الأحداث، أو دعم فئات أو طوائف على حساب فئات وطوائف أخرى، فإن شبح الحروب الأهلية سيتحول من مخاوف إلى واقع مؤلم سنندم جميعاً عليه.