في الحقيقة تعتبر التجارة العربية البينية هدفاً ونتيجةً ودافعاً في ذات الوقت· فهي هدف تسعى كافة الأقطار العربية إلى تنميته وتطويره والتمسك به، وهي نتيجة تعكس مستوى التنمية الاقتصادية الذي وصلت إليه الدول العربية، كما تعكس مستوى التعاون والتنسيق الاقتصادي بين الأقطار العربية في سعيها لتحقيق التكامل الاقتصادي العربي، وهي في ذات الوقت دافع قوي وباعث حقيقي للتنمية الاقتصادية العربية، حيث إن نمو التجارة العربية البينية يبعث روح التفاؤل والأمل بقرب تحقيق التكامل الاقتصادي العربي فيخلق بالتالي حافزاً تجاه تحقيق مزيد من النمو الاقتصادي·
وعلى رغم ظهور منظمة التجارة العالمية وسيطرة فكرها وفلسفتها بل ونظامها في النظام الاقتصادي الدولي، وبروز رغبتها الشديدة في خلق نظام اقتصادي عالمي تتحرر فيه التجارة والاستثمار والإنتاج بل والاستهلاك العالمي أيضاً من كافة القيود الجمركية والإدارية والسياسية التي تعيق حركتها بين الدول، وتتحرر فيه كذلك عناصر الإنتاج إلا أننا نلاحظ أن كافة دول العالم مازالت لديها النزعة القوية نحو التكتلات الاقتصادية الإقليمية، وبالتالي ما زالت لديها الرغبة في تميز الإقليم الذي تنتمي إليه وهيمنته اقتصادياً· والحقيقة أن كل إقليم له مبرراته وأسبابه التي تدفعه نحو التكتل الاقتصادي، وأن تلك الأسباب بلا شك تعكس مصالح اقتصادية مشتركة رأت دول الإقليم المتكتل أن التكتل هو السبيل الأفضل لتحقيقها في ظل عالم تسوده المنافسة الاقتصادية الشديدة· ومن هذا المنطلق نجد الولايات المتحدة الأميركية تتحالف مع كندا والمكسيك لتشكل كتلة اقتصادية ضخمة، وكذلك عملت دول الاتحاد الأوروبي، ودول شرق آسيا· فلماذا لا يتكتل الوطن العربي مع وجود المقومات القوية التي تدفعه نحو التكتل الاقتصادي ومنها : المساحات الجغرافية الواسعة والمتنوعة التضاريس والمناخ والمتصلة ككتلة جغرافية واحدة دون وجود أية عوائق أو فواصل طبيعية تفصل بينها· وعدد السكان الكبير الذي يقترب من 200 مليون نسمة والذي تشكل القوى العاملة فيه حوالى 55%· والموارد الاقتصادية الكثيرة والمتنوعة، ورؤوس الأموال الضخمة· إضافة إلى المقومات الأخرى غير الاقتصادية كالتاريخ المشترك والدين الواحد واللغة الواحدة والأهداف والغايات السياسية المشتركة والنظام الاجتماعي المتجانس· فهل يظل التكامل الاقتصادي العربي هدفاً في ظل العولمة؟· في الحقيقة لقد أدركت منظمة التجارة العالمية أهمية النزعة الإقليمية للتكتلات الاقتصادية الإقليمية، ورأت بالفعل أن هذه النزعة المتأصلة لا مناص ولا يمكن التخلص منها· وبالتالي فلا بد من التعامل معها كأمر واقع لا بد من وجوده، فأخذت بالفعل تكيف أنظمتها وقواعدها ومبادئها لتتفق مع أنظمة تلك التكتلات الاقتصادية· ومن هذا المنطلق نجد أن المادة (24) من اتفاقية الجات قد سمحت للدول الأعضاء بإنشاء التكتلات التجارية الإقليمية كاستثناء لمبدأ (الدولة الأولى بالرعاية)· ولقد أصبح هذا الاستثناء قاعدةً أساسيةً ثابتةً من قواعد منظمة التجارة العالمية·
بل إن المنظمة تنظر إليه على أنه مبدأ في غاية الأهمية، وذلك نظراً لأن الإقليم الواحد يفاوض عن مصالحه المشتركة كإقليم قبل أن يتفق مع باقي أعضاء المنظمة وقبل أن يوقع على المواثيق والمعاهدات والبروتوكولات حول أية مسألة ذات بال في التجارة الخارجية· ولا شك أن هذا المبدأ يعتبر من المتغيرات الدولية المعاصرة التي تحفز أقطار العالم العربي نحو التكتل الاقتصادي الإقليمي وتدفعهم نحو التكامل الاقتصادي العربي الذي لا يتنافى إطلاقاً مع مبادئ تحرير التجارة، بل إنه يكون محفزاً قوياً لنموها وتطورها· وبإلقاء نظرة على التجارة البينية في العالم العربي (الصادرات+الواردات) مقومةً بالأسعار الجارية· وبالطبع إذا أردنا أن نحسبها بدقة أفضل فلا بد من حسابها بالأسعار الحقيقية التي تخصم معدلات التضخم النقدي من الأسعار الجارية· فالتجارة البينية بالأسعار الجارية بلغت في عام 1972 حوالى ملياري دولار أميركي، ثم نمت خلال عقد السبعينيات من القرن العشرين بمعدل نمو سنوي بلغ حوالى 30% لتصل إلى حوالى 23 مليار دولار في عام ،1980 وتعتبر هذه حقبة الرواج الاقتصادي بسبب رواج انتاج وتصدير النفط الخام والغاز الطبيعي وبأسعار مرتفعة، حيث شملت ايرادات النفط وخيراته كافة أقطار العالم العربي وتأثرت بها التنمية الاقتصادية في كافة البلدان العربية وبشكل واضح وجلي· وفي حقبة الثمانينيات من القرن العشرين شهدت التجارة العربية البينية فترة ركود وتراجع كبير في النمو حتى بالأسعار الجارية، ناهيك عن حسابها بالأسعار الثابتة الحقيقية، وذلك بسبب الركود الذي أصاب قطاعي النفط الخام والغاز الطبيعي والتراجع الحاد في أسعارهما في الأسواق العالمية· فبلغ متوسط قيمة التجارة العربية البينية خلال الفترة 1981-1985 حوالى 20 مليار دولار، ثم انحدر هذا المتوسط إلى حوالى 15 مليار دولار خلال الفترة 1986 -·1990 وخلال عقد التسعينيات من القرن الع