حصاد الغزو... فشل للعراق أمْ لأميركا؟
بحكم نشاطه وارتباطه بالعمل السياسي العراقي لما يربو على الثلاثين عاماً، فقد كان علي علاوي، أحد أبرز قادة المعارضة لنظام صدام حسين السابق. وعقب الإطاحة بذلك النظام، تولى علي علاوي عدة مناصب سياسية حكومية رفيعة، بما فيها منصبا وزير الدفاع والمالية حتى وقت قريب من صدور كتابه الذي نعرضه هنا، وعنوانه "احتلال العراق: الفوز بالحرب وخسارة السلام". لذلك فإن التقييم الوارد في هذا الكتاب، إنما هو مستمد من تجربة شخصية غنية وحية في تفاعلها النشط مع الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي العراقي، ويقوم على معرفة عميقة بشتى التيارات والفصائل السياسية والطوائف الدينية التي يتألف منها نسيج المجتمع العراقي. وعلى خلفية هذه المعرفة بتاريخ وسياسات العراق، فيما قبل وما بعد صدام حسين، ربما كان علاوي في مقدمة من توجه إليهم الأسئلة الصعبة حول مجريات المشهد السياسي اليومي في العراق، وتطوراته الخطيرة باتجاه الحرب الأهلية وما تنطوي عليه من مخاطر، لا تقتصر تداعياتها الكارثية على العراق وحده، وإنما بدأت تهدد أمن واستقرار المنطقة كلها. ومن بين الأسئلة الكبيرة التي أثارها علاوي نفسه وأجاب عنها: لماذا أقدمت الولايات المتحدة أصلاً على غزو العراق، ولماذا أخفقت كل الخطط والسياسات التي قامت عليها الحرب؟ ثم ماذا كان دور القيادات الوطنية العراقية، ومدى مسؤوليتها ومساهمتها في هذا الإخفاق؟ وما هي آفاق حل الأزمة العراقية الراهنة؟
أما الإجابة عن السؤال الأول بين ما أثير أعلاه، فيتماهى فيها موقف علاوي مع الموقف العام لمعارضي نظام صدام حسين السابق، رغم عدم توفر الأدلة على وجود أسلحة الدمار الشامل المزعومة، وعدم ثبوت وجود علاقة ما بين نظام صدام وتنظيم "القاعدة"، بما في ذلك انتفاء ما أثير حول وجود دور أو صلة ما لذلك النظام وهجمات 11/9 التي نفذتها "القاعدة" ضد الولايات المتحدة الأميركية. فاجتثاث ما كان يوصف بالنظام "الفاشي" في قاموس المعارضة العراقية، وفتح الطريق أمام التحول الديمقراطي، كان بحد ذاته هدفاً لا يطعن في أخلاقية الغزو ولا دوافعه. ومهما يكن فقد حدث ما حدث، وبالتالي أصبح السؤال الأهم هو: ثم ماذا بعد الغزو؟ وهنا يلقي المؤلف بنظرة متأملة فاحصة لما كانت تعلمه أو تجهله الولايات المتحدة لحظة إقدامها على غزو العراق، ويعمل على تقديم تفسيراته وتحليلاته الخاصة، للالتباس والتناقضات اللذين اتسمت بهما السياسات الأميركية الخاصة بإدارة عراق ما بعد الغزو. وكان طبيعياً أن يشمل هذا التحليل، طبيعة ودور وسياسات سلطة الاحتلال وما بعدها، وصولاً إلى دراسة الأسباب التي أدت إلى نشوب العنف الطائفي السياسي هناك. ومن أهم الانتقادات التي ساقها التقييم لما يسمى بسلطة التحالف الدولي المؤقتة، عجزها عن فهم طبيعة وعمق العداء الشعبي الذي بدأ يتشكل ضدها، بما في ذلك العجز عن استيعاب الولاءات السياسية المتناقضة والمضللة، والتي عولت عليها سلطة الاحتلال. فقد ثبت في مجرى الصراع الدائر حتى اليوم في العراق، أن كثيراً من الولاءات الشكلية الظاهرية كان خادعاً، بينما تأكد الولاء الفعلي للفصيل السياسي أو الطائفة الدينية أو الانتماء العشائري القبلي، حتى بين قوات الأمن العراقية نفسها.
ويضرب علاوي مثالاً لذلك بمحاولة قوات "المارينز" إنشاء ما عرف حينها بلواء الفلوجة، إثر الحصار الذي فرضته تلك القوات على مدينة الفلوجة عام 2004. وكانت الفكرة وراء تلك المحاولة هي إنشاء لواء محلي من مقاتلي المدينة نفسها، بحيث يصبح ظهيراً دفاعياً للقوات الأميركية، وموالياً بالضرورة لسلطة الاحتلال. ومن الغريب في الأمر أن بول بريمر، رئيس سلطة التحالف نفسه، لم يسمع بأمر ذلك اللواء إلا من خلال التقارير الإخبارية التي نشرتها عنه الصحف. أما علاوي –المؤلف- الذي كان وزيراً للدفاع حينها، فقد اضطر إلى الذهاب إلى التلفزيون لشجب تلك الخطوة. أما الذي حدث وتكشّف لاحقاً، فهو أن اللواء المذكور تظاهر بمساندة قوات التحالف الدولي وحماية ظهرها لبضعة أسابيع فحسب، ثم سرعان ما انقلب عليها ليصبح العمود الفقري لما عرف لاحقاً بـ"جيش التحرير الوطني". ذلك هو تناقض الولاءات الذي تناوله الكاتب بالتحليل والتشريح. فقد انتفى على الصعيد العملي، أي حديث نظري عن احتمال مشاركة المقاتلين المنضوين تحت ذلك اللواء، في استئصال بذرة التمرد الناشئة للتو، اللهم إلا من باب الوهم في أن يوجه أولئك المقاتلون بنادقهم إلى صدورهم، لصالح سلطة الاحتلال!
على أن من بين القضايا المهمة التي ناقشها الكتاب، التركيب السياسي للمعارضة العراقية نفسها، منذ فترة ما قبل الاحتلال، ومنظور كل تيار وفصيل من الفصائل المكونة لها، وتباين الرؤى السياسية المختلفة لما يجب أن يكون عليه عراق ما بعد صدام، والدور المفترض لكل حزب وتيار سياسي في تلك المرحلة. ومن منظور التحليل النهائي لهذا الجانب، فإن في تركيب قوى المعارضة العراقية نفسها -وهي التي شكلت لاحقاً أول حكومة عراقية في ظل الاحتلال الأميركي- ما يحمل بذرة الضعف، ويفسر المصاعب السياسية التي واجهتها في تجربة إعادة بناء العراق، وقيادته باتجاه التحول الديمقراطي.
غير أن حقيقة الفوز بالحرب، في مقابل خسارة السلام، إنما يتحمل الطرف الأميركي الوزر الأكبر فيها، نظراً لغياب خطة استراتيجية واضحة لدى قوات الاحتلال، لما ينبغي أن تكون عليه عملية بناء السلام. وتلك هي التركة التي أصبح لزاماً على العراقيين تحملها وإنقاذ بلادهم من شبح التمزق ونذر الحرب الأهلية المستطيرة.
عبد الجبار عبد الله
الكتاب: احتلال العراق: الفوز بالحرب وخسارة السلام
المؤلف: علي علاوي
الناشر: مطبعة جامعة يل
تاريخ النشر: 2007