التقى على أرض أبوظبي- قبل أسبوعين- مثقفون عرب وأجانب، حضروا الاحتفال بتوزيع جائزة الشيخ زايد للكتاب، نال الجائزة من استحقها وحسب تقدير لجان التحكيم. المثقف العربي يحتاج دوماً إلى أرضٍ تؤويه، وصدر حنون يقابله بالحب والترحاب. وفي "دار زايد" كان أصحاب الجائزة على قدر المسؤولية في تنظيم إقامة واستقبال ضيوف الجائزة، وكذلك تلبية طلباتهم -التي تكون أحياناً "زيادة حبتين"- لكن الجميع كانوا (واسعي الصدر) يلبون الطلبات بكل ترحاب، وهذا ما جعل إقامة المثقفين جميلة. تزامن توزيع الجائزة مع عرس ثقافي آخر، هو معرض الكتاب السابع عشر، ولقد أقيم المعرض في مكان بهيّ وواسع، وارتدى حُلة ألمانية من حيث الشكل لا تخطئها العين. كما غابت الرقابة عن المعرض، وتلك سجية حميدة حتّمها الانفتاح على الثقافات وتبدّل المفاهيم، وتلاقي الثقافات على مستوى العالم. ملامح تراثية أقيمت عند مدخل المعرض، وندوات ثقافية بإحدى القاعات، وأمسية للشاعر الفلسطيني محمود درويش، وورش عمل ومناظرات حول النشر والترجمة، ودور الوكلاء والناشرين، والأساليب الفعّالة لتسويق الكتب. وعشية تسلّم الأدباء والمبدعين لجوائزهم تُعلن "مؤسسة الإمارات" عن جائزة أبوظبي للرواية والقصة العربية، وتهدف الجائزة إلى تعزيز الجهود الرامية إلى نشر الأدب العربي وتشجيع ترجمة الأدب الروائي العربي إلى اللغات العالمية. وفي بهو الفندق الأنيق، يتحلّق المثقفون العرب لتداول شجونهم، فمن الرقابة في بعض البلاد العربية، إلى حجب جائزة أحسن دار نشر، إلى أعضاء لجان التحكيم، إلى تعامل دور النشر مع الإنتاج الإبداعي وهضم حقوق المبدع، إلى إشكالية تعامل السلطة مع المثقف، إلى شروط الثقافة الحقيقية. لقد تحولت الأمسيات الجميلة في أبوظبي إلى شبه ندوات شعبية، وتلك إشارة إلى نجاح ذاك التجمع الذي قُصد منه تعريف المثقفين العرب ببعضهم بعضاً، وتحفيزهم لمزيد من الإبداع، ليس للوصول إلى الجائزة فحسب، بل لتأخذ الثقافة العربية مكانتها بين ثقافات العالم، ويجد المبدع اليد المشجعة التي تشدّ على يديه، بدلاً من قطع أصابعه. لقد حصل نوع من الاختلاف بين المثقفين حول استحقاق الجوائز، وبدا ذلك بعد حجب جائزة النشر والتوزيع، وجاء حفل توزيع الجوائز بسيطاً ومُعبّراً، ولازمه عزف للفنان نصير شمة وفرقته. إلا أن الفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، فاجأ الجمهور بالإحصائيات المخيفة حول النشر في البلاد العربية، ومقارنتها ببلاد أخرى، وذلك خلال كلمته القصيرة في حفل توزيع الجوائز. بالطبع لا يوجد عمل كبير إلا ولازمته بعض الهنّات، لكننا -كعرب- حسّاسون جداً وتعوّدنا أن تكون أعمالنا 100% أو على الأقل 99% على شاكلة فوز الرؤساء في الدول "الديمقراطية"! الحدث الأجمل هو لقاء الفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، مع المثقفين العرب في قصره، وسماعه لآرائهم، وتلك لفتة قدّرها الأخوة العرب، ذلك أن العلاقة بين المثقف والسلطة - في معظم البلاد العربية- متوترة ويشوبها الحذر والتوجس، لأن الحاشية في القصور العربية حاولت -على مدى التاريخ- حجب الحاكم عن الاجتماع مع المثقفين، وتمّ دقّ إسفين بين الحكومة والمثقف الذي دوماً كان يُنعتُ بـ"المشاكس"، كونه يقرأ كثيراً ويتخيل كثيراً، ويريد استنهاض الهمم من أجل غد أفضل لمجتمعه ووطنه. وكم سمعنا من التراث الشعري عن قطع رؤوس شعراء هجوا حكاماً، أو تم تزوير شعرهم بحرف أو نقطة فانقلب البيت إلى الضد. وخلال عهود الاستعمار زادت الجفوة بين المثقف والسلطة وتم اتهام المثقف بالتحريض، والتنوير، وبلبلة الأمن في البلاد، فحصل النفي الجغرافي، والنفي النفسي، وتكونت ثقافة الاغتراب في النصوص، بل وظهر مبدعون عرب من تحت الزنانير وآخرون في المنافي! وبعد فوز أبوظبي في تنظيم مسابقة "شاعر المليون" حيث فاز بالمسابقة الشاعر القطري محمد بن فطيس المري، حيث أجاد واستحق اللقب، أعلن خلال المعرض عن مسابقة "أمير الشعراء" وهي مسابقة شعرية باللغة الفصحى، وتشمل الشعراء العرب، ولها شروط محددة. إذن، تلك هي أبوظبي وذاك هو معرضها السابع عشر للكتاب، وتلك هموم الجائزة ومباهجها. وما أجمل أن تلتفت الدول إلى الثقافة، وترعى النشء على أسس سليمة في ظل هجمات تجهيلية وإغوائية عبر الفضائيات ومواقع الإنترنت. وما أجمل أن تتزين المدينة العربية بحُلل الثقافة، كما تتزين بحُلل الرياضة، وما أجمل أن يُخصص مبلغ معين لدعم الكتاب وزيادة إقبال الشباب عليه، وهذا ما تم الإعلان عنه في معرض أبوظبي، حيث تم اعتماد 3 ملايين درهم لدعم كتب الأطفال. وما أجمل أن تخصص الدولة -أي دولة- جزءاً يسيراً من ميزانيتها لدعم طباعة وترجمة الكتب الجيدة، ذلك أن المبدع العربي في حاجة ماسة إلى تلك اللفتة، وهو يعاني الأمرَّين عندما يطبع كتابه على حسابه أو عندما "يَقتنصْهُ" ناشرٌ غير مؤهل. يستحق القائمون على معرض أبوظبي للكتاب تحية، ويستحق القائمون على أمر جائزة الشيخ زايد للكتاب تحية أخرى. وأخيراً... والأجمل أن المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان كان موجوداً بين الحضور، لأن الجميع كانوا يدعون له بالرحمة والغفران، ويشيدون بمآثره وسجاياه.