الطائفية... نتاج لتوظيف "الديني" في السياسة!
خصص "مركز المسبار للدراسات والبحوث"، النسخة الرابعة من كتابه الشهري، لموضوع شديد الحساسية وبالغ الأهمية خلال وقتنا الحالي وبالنسبة لمنطقتنا، ألا وهو موضوع "الطائفية"، وذلك بعد أن كرس المركز أعداد كتابه الثلاثة السابقة لموضوعات "السرورية" و"الأحباش" و"اللاعنف"، على التوالي.
وفي تقديمه للكتاب الجديد، ينطلق رئيس المركز تركي الدخيل من مفهوم القراءة أو آلية التأويل وما يتلبسها من زوايا وإسقاطات وسياقات للنظر وإنتاج المعنى، كمصدر للتباينات المذهبية وظهور الطوائف داخل المنظومات الدينية الكبرى. فمن هنا "كان ميلاد الطوائف في التاريخ الإسلامي"، حيث بدأت كل طائفة تكرس ذاتيتها الخاصة، باحثة عن "مساحة اختلافها مع الآخرين" وما يميزها عنهم. وفي مقابل التعصب الطائفي كان ينشأ تعصب طائفي مضاد، سرعان ما يدخلان منطق الصراع والمواجهة وحروب التصفيات المتبادلة، كما حدث في فترات من التاريخ الإسلامي، ويتكرر الآن في بلدان إسلامية ذات تركيبة طائفية متعددة!
ورغم أن مفهوم الطائفية يظل ملتبساً في التناول التحليلي وفي الممارسة التاريخية معاً، فإن يوسف الديني يستهل معالجات الكتاب بدراسة تبحث في ذلك المفهوم وتستكنه ما يضمره من تجاذب بين الديني والسياسي. فالطوائف (الفرق) الأولى في تاريخ الإسلام كانت تحمل هماً سياسياً مباشراً، وقد وضعت نفسها في موقع المعارضة للحكم الأموي السائد، والذي "شغله صراع المفاهيم بمضامين طائفية". كما حرص العباسيون من بعده على الاستفادة من الاستقطاب الطائفي، مما حول العراق إلى ساحة صراع، عقدي وسياسي، بين السُّنة والشيعة، أي الصراع الذي أفضى لاحقاً إلى قيام دول "إمامية" مقابل دول "الخلافة". ويلاحظ الكاتب أنه رغم اضمحلال ذينك النموذجين، فإن دينامية التحديث والعصرنة لم تحقق "الدمج المدني"، بل إن المفهوم الطائفي أخذ بعده، السياسي والقانوني، كاملاً وأصبح قاعدة لقيام دول عديدة أبرزها لبنان الذي يتمتع بنظام برلماني ديمقراطي! لكن "إذا كانت الطائفية مشكلة كبرى تحدق بأي مشاريع تحديثية، فإن علاجها عبر نظم مستبدة، تقضي على كل التمايزات الدينية والمذهبية، عبر نظام شمولي، لا يقل كارثية عن الطائفية ذاتها".
وتحت عنوان "العراق... توظيف الطائفية سياسياً"، يذهب الدكتور رشيد الخيون إلى أن "أخطر ما يمزق العراقيين هو الخلاف السُّني الشيعي؛ فالطائفية المذهبية تشربتها النفوس، بعد أن مارستها السلطات قروناً من الزمن". ولشرح ذلك يعود الكاتب إلى الحقب الأموية والعباسية والعثمانية والملكية ثم الجمهورية. فمنذ انتهاء "الفتنة الكبرى" وما أعقبها من ظهور للفرق والمذاهب، أصبح المذهب السُّني مذهباً رسمياً للدولة العراقية، واستمر كذلك خلال الحقبة الأموية ثم في العهد العباسي، مروراً بمرحلة الحكم المغولي. وخلال المرحلة العثمانية، يرى الكاتب أنه "حصل تشدد ضد التشيُّع"، بسبب صراع الدولتين العثمانية والصفوية اللتين تبادلتا اضطهاد الطائفتين. أما بعد العهد العثماني، فيقول الخيون إن علماء الشيعة قادوا "ثورة العشرين" وحرموا وظائف الدولة على أتباعهم، فاحتل وجهاء السُّنة المراكز العليا، وتوالى 23 رئيس وزارة، منهم فقط أربعة شيعة. وفي العهد الجمهوري تولى سبعة رؤساء وزارات كان بينهم شيعي واحد فقط، ما يعني أن تلك الحكومات مارست الطائفية "تحت غطاء وحدة المجتمع"، أي الحالة التي بلغت ذروتها في عهد صدام حسين الذي قام باضطهاد وتهجير جماعات كبيرة من الشيعة.
وفي دراسة عنوانها "الطائفية ومشكلة بناء الدولة في لبنان"، يتساءل أحمد الزعبي: هل تمثل الطائفية مصدر شرور للحياة اللبنانية؟ ولماذا نص الدستور اللبناني الجديد على اتخاذ الإجراءات الملائمة لإلغائها؟ يشخص الكاتب مأزق العلاقة بين الدولة والنظام الطائفي في لبنان، موضحاً أن الطائفية في الحالة اللبنانية شكلت على الدوام سداً منيعاً ضد استبداد الدولة وطغيانها. لكن في المقابل كانت الطائفية أداة إضعاف للدولة، لذلك ما أن أطلقت الطائفية العنان لمكبوتاتها خلال الحرب الأهلية (1975- 1990) حتى انهار مشروع الدولة الوطنية. من هنا فإن ثمن الديمقراطية اللبنانية هو ضعف الدولة وقوة الطوائف، أما المأزق اللبناني فيتجلى في ثنائية الديمقراطية "المعتلة" والدكتاتورية "المعافاة". ويخلص الكاتب من استعراضه لتجربة الحرب الأهلية وما بعد اتفاق الطائف، إلى أنه ما من رهان على احتواء النزاع الطائفي، غير استحالة استمرار الاستقرار السياسي في ظله، كما أن الخوف من الحرب الأهلية هو بحد ذاته أداة مهمة في بناء مشروع وطني يضم قوى متعددة الطوائف والمصالح والأهداف.
ويرصد أكرم ألفي تحول "شيعة الخليج من المصادمة إلى المشاركة السياسية"، حيث حملت السنوات الأخيرة تطوراً مهما في الخطاب والتوجه السياسيين لشيعة الخليج، كدلالة على ميل قوي نحو الاندماج في الأطر السياسية القائمة. وقبل ذلك تبرز الدراسة كيف أن أهم حركات المعارضة السياسية، القومية واليسارية، في منطقة الخليج خلال أواسط القرن الماضي، كانت شيعية بالأساس. ثم أخذت منحى آخر بعد أن تبنى جيل جديد من القيادات الشيعية الخليجية رؤية الخميني وأفكاره الثورية. لكن في مرحلتنا الحالية حيث سطع نجم السيستاني كمرجعية معتدلة، فإن رؤيته أصبحت هي السائدة لدى كافة علماء الشيعة في الخليج وقياداتهم السياسية.
ويطل علي الغراش على الخريطة "الطائفية في الخليج... الواقع والمستقبل"، مبيناً أن المسألة الطائفية برزت بعد حرب الخليج الثانية (1991)، ثم زادت بروزاً بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003 واعتلاء أبناء الطائفة الشيعية المواقع الرئيسية في الحكومة العراقية الجديدة. ويربط الكاتب تزايد الاستقطاب الطائفي في المنطقة بهيمنة الخطاب التكفيري، وبمحاولة بعض التيارات خطف الشارع لصالحها فقط.
وعن "التشابك الطائفي والقومي" في إيران، يقول حسين الأهوازي إن هذه الأخيرة تقدم أوضح صورة لتداخل العاملين المذهبي والقومي. فالدولة الصفوية، وبدافع تمييز نفسها عن الدولة العثمانية، حولت الإيرانيين بالقوة من المذهبين الشافعي والحنفي إلى المذهب الشيعي، ومنذ ذلك الحين تدهورت أوضاع أهل السُّنة في إيران وانحسر وجودهم في الأطراف، بل عملت ماكينة الدعاية الصفوية على ترسيخ الروح الطائفية من خلال إظهار طائفة أهل السُّنة بمثابة أعداء لأهل البيت، واختلقت الكثير من القصص والروايات المكرسة لذلك الاتجاه، والذي يجد استمراره حتى يومنا هذا.
وإلى ذلك يتضمن الكتاب أيضاً، دراسة كتبها هاني نسيرة "حول خريطة الأقليات في العالم العربي"، ودراسة أخرى قيمة عن "التجديد الإسلامي... الماضي والحاضر" بقلم جمال البنا. كما قدم يوسف الديني قراءة متعمقة في كتاب "نظام الطائفية: من القبيلة إلى الدولة" لمؤلفه الدكتور برهان غليون.
محمد ولد المنى
الكتاب: الطائفية
المؤلفون: جماعة
الناشر: مركز المسبار للدراسات والبحوث
تاريخ النشر: 2007