أربعة أعوام على الاحتلال الأميركي للعراق والأوضاع الأمنية من سيئ إلى أسوأ، والخطط الأمنية تتوالد من الفشل. مازالت الإدارة الأميركية تجادل في فشلها في العراق، ومازالت الأوضاع الأمنية تمنى بمزيد من الفشل العراقي الرسمي لكبح جماح الإرهاب ولتعزيز الأمن في البلاد. أنهار الدماء لم تتوقف والأجساد المفخخة لازالت تنثر الأشلاء، أصبحت اللغة الطائفية أعلى شيعة أم سُنة، أصبحت اللغة الإعلامية تقسم العراق إلى مناطق ذات أغلبية شيعية أو أغلبية سُنية، ميليشيات شيعية أو مسلحين سُنة. وحولت الاستراتيجية الأميركية الجديدة هذا الفصل من كلام إلى خرسانات تصب على الأرض محيطة مناطق وأحياء سكنية بجدران فاصلة. فقد بدأ الجيش الأميركي ببناء جدار فاصل حول حي الأعظمية ببغداد ذي الأغلبية السُّنية والمحاط بأحياء ذات أغلبية شيعية، وقد بدأت الكتيبة في عملية البناء في العاشر من الشهر الجاري، ويعمل الجنود الأميركيون مجدين لإنجاز المشروع بأسرع ما يمكن. وذكر بيان للجيش الأميركي أن الجدار يهدف لمنع تصاعد أعمال العنف الطائفي بين السُّنة والشيعة في المدينة، وذكر الجيش الأميركي أن الأعظمية ستصبح لدى انتهاء العمل في الجدار مسيَّجة بجدار خرساني فاصل عليه بوابات يحرسها رجال شرطة عراقيون يراقبون الدخول إليها والخروج منها. وسيشتمل الجدار على حواجز فاصلة بارتفاع ثلاثة أمتار ونصف . وهي مجرد بداية لسلسلة من الجدران الفاصلة ستعزل مناطق وأحياء حددها مسؤول بوزارة الدفاع العراقية بـ"الدورة، العامرية والعامل، والعدل في جانب الكرخ من العاصمة، ومدينة الصدر من جانب الرصافة". لعل الإدارة الأميركية في استراتيجيتها الجديدة الهادفة حسب بيان الجيش الأميركي إلى "كسر دائرة العنف التي تعيشها بغداد"، تستنسخ فكرة جدار الفصل العنصري الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. حقيقة تخطئ السياسة الأميركية اليوم كما أخطأت في السابق، في استنساخها لفكرة الجدران الفاصلة، ولو كانت السيطرة المبنية على المناطق المعزولة وكما يذكر مصدر في وزارة الدفاع العراقية معتبراً أن تطويق المدن الساخنة من أهم مراحل الخطة الأمنية، حيث سيتم تحديد منفذ واحد للخروج وآخر للدخول لكل منطقة يتم تطويقها. وهي نظرياً فكرة سديدة أمنياً لكنها واقعياً ستساهم في تصعيد النزعة الطائفية وهي سياسة ثبت خطؤها على المدى الطويل، فإن كانت الحكومة الأميركية عاجزة عن استيعاب المعادلة السياسية العراقية فإن الحكومة العراقية أحرى بها أن تقف ضد هذه الحلول الطائفية إلا إذا كانت سياسة الحكومة العراقية تدفع للفصل الطائفي. وقد أبدى عدد من السياسيين العراقيين تخوفهم من تحول بغداد رسمياً إلى مناطق عازلة وكانتونات مذهبية مغلقة، وهي بالتأكيد مخاوف مشروعة تحول خطة تقسيم العراق إلى واقع ملموس وإن كانت قد بدأت بالأحياء السكنية فهذا لا يمنع أن تنتقل مستقبلاً وتتوسع الخطة الأمنية إلى تقسيم العراق بالجدران الفاصلة إلى مناطق سُنية وشيعية وأخرى كردية، ويتحول العراق وكما جاء في توصيات لجنة "بيكر - هاملتون" إلى ثلاث دويلات على أسس طائفية، وهو مستقبل تدفع الاستراتيجية الأمنية إلى تحويله إلى واقع ملموس. إن ما لم يكن مقبولاً في الماضي أصبح أكثر قبولاً اليوم، وخطة تقسيم العراق ماضية شئنا أم أبينا، إن الحديث عن التقسيم الطائفي عراقياً لا يمكن أن يكون شأناً عراقياً خالصاً، فللتقسيم الطائفي امتدادات في دول الجوار الجغرافي، والتقسيم الطائفي سينعكس سلباً على استقرار المنطقة برمتها لا العراق فقط. ففيما يتفرج العرب وترفض جامعة الدول العربية الحديث عن عراق مقسم، وحدها طهران ستكون الفائزة في عراق مقسم بين السُّنة والشيعة والأكراد، فدولة شيعية عراقية تحوي تراب كربلاء والمزارات الشيعية ستكون أكبر نجاح للسياسة الإيرانية. وستصبح الحكومة العراقية موالية تقليدياً ومذهبياً للحكومة الإيرانية مما سيخلق جبهة شيعية قد تمتد إلى الضفة الأخرى من الخليج بتعزيز الحديث عن الطائفية في دول الخليج مما سيشكل تهديداً للدول الخليجية ذات الأغلبية السُّنية وبالتالي تتعاظم المشاكل الأمنية. أما الدولة الكردية في شمال العراق فالحكم الذاتي الذي كان الأكراد ينعمون به منذ بداية التسعينات أعطى للأكراد قدرة سياسية على إدارة مناطقهم، لكن تبقى إشكالية الحديث عن دولة كردية تثير حساسية مع دول الجوار تمتد عبر الحدود التركية والسورية والإيرانية. فتركيا الجارة الشمالية لن ترضى بدولة كردية على حدودها الجنوبية، دولة قد تطال حدودها للأراضي التركية. أما الحديث عن دولة سُنية في الوسط فهو حديث مخادع حيث تتداخل الأحياء السُّنية بالأحياء الشيعية. لقد أصبح العنف الطائفي عنواناً للأخبار القادمة من العراق، والتطهير الطائفي والانتقام لسنوات من الكبت والإقصاء أصبحت خيار المنتصر اليوم، فلم تستطع حكومة الوحدة "الوطنية" الشيعية الهوى كبت العنف المتأجج في الطائفة الشيعية انتقاماً لسنوات الإقصاء والقهر أيام صدام حسين. فالحكومة وعلى رأسها رئيس الحكومة المنتخب وصلت للحكم بطريق فتاوى المرجعية الشيعية وعلى أكتاف "جيش المهدي"، في وضع يغدو معه سؤال الولاء سؤالاً ساذجاً، الطائفة أم العراق؟ الوجود العسكري الأميركي سيصل إلى نهاية المطاف قريباً، وقد أعلنها صريحة وزير الدفاع الأميركي روبرت جيتس حين دعا المسؤولين العراقيين إلى الإسراع في جهود المصالحة الوطنية وأكد بأن "الالتزام الأميركي تجاه العراق ليس بلا نهاية". العراق اليوم بحاجة للمصالحة بين فئاته، مصالحة سياسية تضع الشعب العراقي أمام مسؤوليات الأجيال القادمة، فعلى جثة العراق اليوم لابد من التساؤل، ماذا يريد العراقيون اليوم؟ الاحتكام للمستقبل هو الفرصة الوحيدة للنهوض بالعراق، المحاصصة والطائفية والانتقام لسنوات الكبت كلها مفردات لن تؤدي إلى استقرار العراق ومعه المنطقة. تحقيق المصالحة السياسية الداخلية عراقياً ضرورة سياسية، وليست مستحيلة فيمكن استلهام تجربة المصالحة الداخلية في جمهورية جنوب أفريقيا، إذ تمكن الشعب بأعراقه وبعد سنوات من سياسة الفصل العنصري والممارسات الوحشية من تجاوز أحزانه، وتمت إحدى أكبر عمليات المصالحة الوطنية فلم يتم إقصاء البيض من جنوب أفريقيا، وتجاوزت الأعراق عمليات الانتقام، وكان الخيار الديمقراطي خياراً للشعب قاد لحكومة نيلسون مانديلا أول حكومة "سوداء" لجنوب أفريقيا. التراجيديا والحكمة التي صبغت تجربة جنوب أفريقيا يمكن أن تستنسخ في النموذج العراقي. الفصل الطائفي لن يحل من مشاكل العراق المتفاقمة بل سيزيد الأمور تعقيداً، والخيار الديمقراطي ليس مطية للوصول للحكم ومن ثم المحاصصة والانتقام. الخيار الديمقراطي خيار شعب من أجل دولة تتطلع للمستقبل وهو الخيار الوحيد المتاح لأشراف العراقيين، ويظل السؤال ماذا يريد العراقيون اليوم؟