إطلاق "معهد أبوظبي للتعليم والتدريب المهني"، يعدّ ترجمة حقيقية لمتطلبات التنافسية، فضلاً عن كونه خطوة مهمة ضمن استراتيجية تطوير التعليم. التعليم المهني لم يعد مجرد خيار تعليمي، بل تجاوز هذا المفهوم التقليدي ليصبح بالفعل ركيزة حيوية للتنمية الشاملة، كما أن الحديث عن حلحلة خلل التركيبة السكانية لن يُترجم على أرض الواقع من دون استحداث مسارات تعليمية تفرز كوادر بشرية مدرَّبة قادرة، تلبية لتحقيق جزء من متطلبات سوق العمل واحتياجاته من المهنيين، وهي أيضاً خطوة باتجاه القضاء على الخلل القائم بين مخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل المحلي. التعليم الفني داعم أساسي للقدرات التنافسية للدول، باعتبار أن التنافسية الحقيقية لن تتمحور مستقبلاً حول تكلفة الإنتاج والتشغيل، بقدر ما ستركّز على مقدرة الاقتصادات على تخريج عمالة نوعية مدرّبة تلبي الاحتياجات، وتتماشى مع احتياجات أسواق عمل تخضع لقواعد ومتطلبات (العولمة). التجارب العالمية تشير إلى أن نجاح نموذج الاقتصاد الألماني وريادته أوروبياً، قد اعتمد -من بين عناصر ومقوّمات عديدة- على التعليم المهني، ما يؤكد أهمية هذا القطاع الواعد، وحتمية تعزيز دوره ضمن خطط تطوير التعليم. أما تجربة التعليم المهني بالدولة فتتطلب العمل على مسارات موازية كي نضمن لها فرص النجاح المنشود، وفي مقدمة هذه المسارات، بلورة استراتيجية توعوية مدروسة للتخلص مما يُعرف اصطلاحاً بـ"ثقافة العيب" التي ارتبطت بقوالب نمطية سلبية عن مهن ووظائف معيّنة؛ حيث نظر الكثيرون اعتيادياً إلى التعليم المهني نظرة دونية ناجمة عن تكريس فكرة (الارتباط القسري) بين المستوى التعليمي والوظيفي من ناحية، والمكانة الاجتماعية للفرد من ناحية ثانية؛ فضلاً عن أن الاتجاه للتعليم الفني يرتبط بديهياً لدى الغالبية بالإخفاق في مسارات التعليم الأخرى، وبالتالي يصبح خريجو هذا القطاع من المهنيين، الذين ربما تفوق رواتبهم رواتب نظرائهم من خريجي معظم الكليات النظرية، محاصرين بنظرة مجتمعية سلبية حيالهم، وبالتالي يصبح من المنطقي تفكيك شبكة هذه العلاقات الذهنية السائدة لدى قطاعات عريضة من الناس، بما يتطلبه ذلك من تعديل القناعات، وتغيير الاتجاهات تجاه الصور النمطية السلبية التي سادت والتصقت بمهن ووظائف معيّنة. المسار الآخر قائم على ضرورة دراسة احتياجات سوق العمل المستقبلية من التخصصات المهنية كافة، كي نتفادى الأخطاء الحالية في منظومة التعليم التقليدي، ونضمن تعظيم فرص الاستفادة من خطط التوجّه نحو التعليم المهني؛ فنحن بحاجة ماسّة إلى معرفة احتياجاتنا التنموية من العمالة المدربة في مختلف المهن، سواء لرسم استراتيجية التعليم المهني، أو لتوجيه الطلاب والطالبات، وأيضاً للحدّ من تدفق العمالة الوافدة عشوائياً، والتمسك بجلب ما نحتاجه فقط، أو تغطية القصور في العمالة المدربة التي تضمن استمرارية الزخم التنموي من دون تعميق خلل التركيبة السكانية بشكل متزايد. إن متطلبات سوق العمل في أجواء التنافسية باتت متغيرة بوتيرة عالية، نتيجة للتقدم والتطور، وظهرت وفقاً لذلك مفاهيم مثل التدريب المستمر، والتدريب أثناء العمل، وغير ذلك من مفاهيم وآليات تتواءم مع سوق عمل تفرض على الكادر البشري تطوير ذاته وأدواته ومفاهيمه، كي يحافظ على تنافسيته في سوق عمل تتخلى تدريجياً عن العمالة التقليدية، وتنتقل بقوة نحو الاعتماد على عمالة موسوعية مرنة قابلة لأداء أكثر من عمل، والتأقلم مع أكثر من مهنة، واستيعاب ما يطرأ من تقنيات تكنولوجية في مجال العمل. عن نشرة "أخبار الساعة" الصادرة عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية