صخرة الديمقراطية
تمّر غالبية البلدان العربية بتراجعات في مسيرتها الديمقراطية. وعندما يقارن المتأمل زخم الأمل الديمقراطي في هذه البلدان قبل بضع سنوات، بالتراجعات الكثيرة التي تشهدها اليوم، فسيدرك أن صخرة الديمقراطية عند العرب تشبه صخرة البطل الإغريقي "سيزيف" التي ما أن يوصلها قريباً من قمة الجبل حتى تتدحرج إلى القاع. فاللعنة التي كتبها الإله "زيوس" على البطل، تظل تلازمه أبد الدهر.
وقبل أكثر من قرن تطلّع العرب نحو الديمقراطية لكن ما أن بدأوا مسيرتهم حتى تدخّلت "آلهة الاستعمار"، ثم العساكر وأجهزتهم القمعية، ثم الوجود الصهيوني وإفرازا ته، ثم الدولة الريعية بقدراتها المالية، ثم جنون الأصولية المسيحية الأميركية... فساهموا كل بطريقته الخاصة في إخفاق مشاريع الديمقراطية أو في تزويرها لتصبح شكلية بلا مضمون. أما الإله "زيوس" الأميركي فقد احتلّ العراق باسم الديمقراطية ليحيله جثة هامدة، وليبدأ الناس بالتساؤل المشكّك: أهذه هي الديمقراطية؟
لكن لنعي بأن الرّضوخ والإذعان لتلك اللّعنة لن يجدي، وأكبر معضلات العرب تحتاج لصخرة الديمقراطية من أجل مواجهتها. فأولاً هناك الإرث التاريخي لظاهرة الاستبداد في الحكم، والتي فرّخت عبر السنين ثقافة وطبائع السيطرة والاستبداد في كل مستويات وحقول المجتمعات العربية. هذا الإرث في الفكر والممارسة الاستبداديين نحتاج إلى تصحيحه والخروج من عباءته وتغيير مساره في اتجاه مضاد تماماً.
وثانياً هناك المشروع النهضوي العربي المتعثرة كل مكوناته الست بسبب غياب الديمقراطية. فالفساد المالي والنّهب الواسع للثروات من قبل البعض في السلطة دون وجود مؤسسات ورقابة ديمقراطية سيجعل الحديث عن التنمية العربية نوعاً من الهذر. والوحدة العربية لن تتحقق على يد مغامرين أو انتهازيين لا يستفتون شعوبهم بشأنها. والتجديد الحضاري يحتاج إلى حرية التفكير والتعبير والتسامح. والعدالة الاجتماعية هي لبّ وروح الديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية. والاستقلال الوطني لا يمكن أن يحافظ عليه نظام حكم يعتمد في بقائه وشرعيته على رضى القوى الخارجية. وهكذا فتلك المكونات الخمس يعتمد تحققها إلى حدٍّ كبير على المكون السادس وهو الديمقراطية.
وثالثاً هناك معضلة انقسامات المجتمع العربي الحادّة والتاريخية على أسس قبلية وعرقية ودينية ومذهبية وإيديولوجية. وهي الانقسامات والصّراعات التي أنهكته عبر القرون. ولا يستطيع الإنسان تجاهل الصّراعات السياسية بين الإسلاميين والقوميين واليساريين والليبراليين طوال القرن الماضي كله والتي لا تزال معنا إلى اليوم. وقد استطاعت بعض النظم العربية القوية جعل تلك الصّراعات تحت السيطرة، بل واستفادت من ترجيح كفّة هذه الجماعة أو تلك لصالحها، فأطفأت النار فوق التراب لكنها لم تزل الجمر من تحت الرماد. وها نحن نرى النيران تشتعل في كل بلاد العرب بعد أن ضعف الكثير من أنظمة الحكم العربية. ومرة أخرى فالحلّ هو تعايش الأفكار والمكونات والثقافات والأصول دون استئصال لأحد، وهذا لا يمكن أن يكون إلا في الأجواء الديمقراطية المتسامحة.
ورابعاً هناك معضلة التعامل مع الآخر، مع الغرب الاستعماري منذ الحروب الصليبية، ومع الصهيونية الاستيطانية منذ ضياع فلسطين. إن عودة الاستعمار في شكل احتلالات كاحتلال العراق وتدخلات سافرة، كما نرى في لبنان والسودان والصومال، وإن التوسع الهائل في المشروع الصهيوني، كما تشهد عليه التراجعات الفلسطينية وخطوات التطبيع العربي... إن كل ذلك يعني أن النظام العربي الرسمي قد وصل مرحلة العقم ويحتاج إلى مجتمعاته المدنية لتعينه على الخروج من مأزقه.
الدولة العربية الحالية في محنة أياً تكن الإيديولوجية التي تتبعها. إنها دولة يحكمها بصورة عامة نظام سياسي غير ديمقراطي، وتعيش على اقتصاد ريعي غير إنتاجي، ويتبعها مجتمع مقموع سلبي، وتتجاذبها قوى خارجية طامعة أو حاقدة... إنها دولة في خطر كبير ولا يمكن أن يعالج معضلاتها إلا نظام ديمقراطي يجعل المواطنين لاعبين أساسيين ويجعل المجتمع مساوياً لسلطة الدولة. لذلك فالمطلوب هو ألا نسمح بأي تراجع للديمقراطية العربية الوليدة، وأن ندفع بها وصولاً إلى القمة.
د. علي محمد فخرو