في البداية يجب أن نعترف بأنه ليس من برنامج أو أجندة أو أهداف معظم الحكومات العربية العمل على إسعاد أو اكتئاب المجتمع العربي، لأنه يكفيها من الهموم ما تعمل على حله من مشكلات وما تقوم به من جهد لمواجهة التحديات والتهديدات المحيقة بأمن الوطن واستقراره، وما تتعرض له من ضغوط داخلية وخارجية لتترك كرسي السلطة، وما تعانيه في سبيل الحفاظ عليه. ولكن من جانب آخر قد يكون التساؤل الصحيح هو: هل جهود الحكومات وسياستها وقراراتها لتحقيق أهداف الدولة التنموية المختلفة من سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وأمنية تسفر في النهاية، ربما عن قصد أو دون قصد، عما يسعد الشعوب أو يزيد مساحة الفرح لديها أم تضيف إلى همومها وكآبتها وحزنها؟ لذلك فهناك حاجة ملحة لإيجاد مؤشر لقياس "سعادة" الشعوب، وهذا لا يمنع من وجود مؤشر آخر لقياس "الغم" أو "الهم" أو "السخط" الذي تكابده الشعوب العربية، فكلها مؤشرات مهمة لقياس المزاج العربي والحالة النفسية للمجتمع، والوقوف على مدى درجة الإحباط أو النشاط التي تصيبه. وقد يستطيع أي إحصائي أو متخصص أو خبير أو حتى الإنسان العادي أن يضع بسهولة ويسر مقياساً دقيقاً لتعاسة المجتمع العربي وتراجع مساحة السعادة والفرح في حياته، نتيجة لما يكابده هذا المجتمع بصورة شبه يومية من ضيق الحال وارتفاع الأسعار والتضخم وازدياد الفقر وتدهور أحوال المعيشة وانتشار الأوبئة والأمراض وارتفاع نسبة البطالة، واستغراق عقود من الزمن للبت في القضايا، والمعاناة من تكميم الأفواه، ترك المستهلك عرضة لاستغلال واحتكار رجال الأعمال وأصحاب السلع والبائعين، وضياع حقوق الإنسان، وغياب الحريات، واستمرار الحال السياسي على ما هو عليه، وفقدان الأمل في أي إصلاح، والأخبار الدموية المنتشرة في دول عربية كثيرة، والرعب المستمر من ضربات التطرف والإرهاب، وانفراد الأقلية بالقرار، وانعدام الشفافية، وأبدية تولي المناصب، وتفاهة الإعلام، والفتاوى الدينية التي تشكك في العقيدة أكثر مما تزيد من قوى الإيمان، والخوف الدائم من الغد، وعدم توافر الأمان للأبناء ليكون زمانهم أفضل من الزمن الراهن. إذن، ما الذي يجعل الإنسان العربي سعيداً؟ يمكن الاسترشاد ببعض المؤشرات التالية، التي ربما بزيادتها أو انخفاضها أو بتحققها من عدمه يمكن أن نصل إلى صياغة ما لمقياس "السعادة العربي"، حيث يوجد فرق جوهري بين قيم السعادة والشعور بها، ومن أبرز هذه المؤشرات: - سياسياً: أن يرتبط استمرار المسؤولين في مناصبهم بمدى ما حققوه من تنمية وتطور لصالح المواطن والمجتمع والدولة، والتداول السلمي للسلطة بحيث يكون الاستمرار للأصلح لشعبه وأمته، وأن يكون الإصلاح السياسي وسيلة وليس غاية، تحكمها مصالح الوطن، بحيث يكون للمواطن موقف ورأي في صنع السياسة العامة خاصة التي تمس بصورة أساسية حياته اليومية ومصيره القريب، في بيئة من احترام الحقوق والواجبات والحريات، وأن تكون الكلمة العليا للشعوب وليس الحكومات، وأن يكون الشخص المناسب في المكان المناسب وفق التأهيل العلمي والخبرة دون حاجة إلى وساطة أو قرابة أو رابطة بأصحاب القرار، واعتماد مبدأ الثواب والعقاب دون تجاوز أو ظلم، كما وأحياناً تكون إقالة مسؤول عربي من منصبه مصدر سعادة لمئات أو ملايين من البشر، وعندما تُحترم إرادة الناخب العربي ولا يتم تزوير صوته الانتخابي يكون ذلك مصدر راحة نفسية وسعادة. - اجتماعياً: أن يشعر الفرد بأهمية دوره في وطنه، وأنه جزء مهم في نسيج الوطن، من خلال احترام آدميته، وتوافر مستوى مناسب من الخدمات الصحية والمعيشية، والاهتمام بمستوى التعليم، وتشجيع الكفاءات وتبني الدولة للمواهب وتنميتها، ويصبح المواطن آمناً على وظيفته وحياته وتقاعده، والعمل على دعم الأسرة وتماسكها، وأن يسود التكافل الاجتماعي والعدالة الاجتماعية بين كل فئات الشعب، وتصب المساعدات في الاتجاه الصحيح، ويجري الاهتمام بتنمية المناطق النائية، ولا يشعر أي مواطن بأنه مضطهد بسبب اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب أو الفكر، وأن يكون الجميع أمام القانون سواء، وأن تزداد المساحة الخضراء والحدائق على حساب التوسع العمراني، ويتم وضع حل حاسم للازدحام المروري والبشري، وتوافر جراجات تستوعب الزيادة المستمرة في السيارات على تنوعها. - اقتصادياً: العمل المستمر على زيادة دخل الأسرة بما يتناسب مع الحياة الكريمة، والقضاء على الاستغلال والفساد والاحتكار، وألا يكون هناك تفاوت في الرواتب والمزايا المادية والعينية في الوظائف بين القطاعين الحكومي والخاص، ويتم علاج التضخم، والعمل على حماية المستهلك، وأن تتوافر السلع الاستراتيجية بأسعار مناسبة ودون تزوير في تاريخ صلاحيتها، وتنتشر أجهزة الرقابة على الأغذية والسلع المختلفة، والاهتمام بالمشروعات الصغيرة وتشجيعها، والمساهمة في تحويل المجتمعات العربية من الاستهلاك إلى الإنتاج، وأن تستقر أسواق الأسهم والسندات والبورصات، وربما تكون الدولة أحن على صاحب الأسهم من نفسه وتعوضه حين يخسر. - إعلامياً: احترام عقلية المشاهد، وأن تمارس وسائل الإعلام دورها الحقيقي كسلطة رابعة من ناحية، وتثقيف وتوعية الرأي العام من ناحية أخرى، وأن تركز على الجوانب الإيجابية بنفس قدر تناولها للجوانب السلبية، والتوقف عن الشعارات الزائفة والخطب الرنانة والشحن العاطفي في غير محله، والكف عن التقليد الأعمى لوسائل الإعلام الأجنبية التي لا تتناسب مع مجتمعاتنا وتقاليدنا وثقافتنا، وتجنب المهاترات والتهويل والفرقعة الإعلامية التي تضخم أشياء لا ترتبط بواقعنا العربي والإسلامي ولا تفيد بل ربما يكون ضررها أكبر، ولا ننسى ما حدث مؤخراً في فتوى أحد "شيوخ الفتنة والفضائيات" حول إرضاع الكبير، والتي سبق أن تناولتها إحدى الفضائيات منذ أكثر من ثلاثة أعوام ولم يدر بها أحد حينها. لقد أتاح التقدم التكنولوجي للعلماء في دول كثيرة، أن يروا ما إذا كان مركز السعادة في الدماغ يظهر نشاطاً عندما يزعم الناس أنهم سعداء، و هذا التقدم يتيح وجود مقياس معقول للسعادة، فماذا يحدث لو قمنا باستخدام هذا المقياس لدماغ المواطن العربي، في الوضع الراهن وبعد أن تتحقق بعض مؤشرات السعادة السابقة، من المؤكد أن النتيجة ستكون متطرفة في الحالتين، ففي الحالة الأولى سينفجر المؤشر من صعوبة قياس حالة الكآبة التي يشعر بها المواطن العربي حالياً، وفي الحالة الثانية سينفجر المؤشر في الاتجاه المضاد لأن المواطن العربي لن يصدق أن حكومته قد اهتمت بسعادته. نحن في حاجة حقيقية إلى دليل للسعادة، وعلى صانعي السياسات المختلفة معرفة ما يجعل الناس سعداء، فربما نرى في المستقبل برامج حكومية تضم بنداً أو أكثر عما يسعد المجتمع ويزيد من مساحة الفرح داخله. وقد يعتقد البعض أننا نطلب المستحيل، فلا أمل في أن تتخلى الحكومات عن طرح الأحلام ومنح الأمل دون تحقيقه، فهي بالأساس لا تهتم بمواطنيها، بل تعتبرهم ناقصي الأهلية وفي حاجة لمن يحجر عليهم، ويدير شؤونهم، ولكن ربما تخيب الظنون ويأتي اليوم الذي يستطيع الشعب العربي فيه أن يملك إرادته ويختار من يستطيع أن يسعده أو يتعسه من المرشحين فـ"لا حياة مع اليأس ولا يأس مع الحياة" والشعوب باقية والحكومات إلى زوال.