"النَّسخ" في القرآن... تصنيفات وتفريعات
أوضحنا في المقال السابق كيف أن موضوع النسخ كان وما يزال فضاءً للخلاف بامتياز بين علماء الإسلام، بمعنى أن المسألة لا تتعلق فقط بالاختلاف بين القائلين بالنسخ، بل هي تتعدى الاختلاف إلى الخلاف لأنها تطرح -كما بينَّا- "إشكالاً يطال جواز أو عدم جواز القول به. إذ هناك من يقول بوقوعه مطلقاً وهناك من ينكر ذلك، وهناك من يقول بوجوده في القرآن ومن ينكر ذلك". والمواقف التي من هذا النوع، أعني التي يلغي بعضها بعضاً، تندرج تحت مقولة الخلاف، فهي من جنس الخلاف بين الوعد والوعيد، مثلاً. أما الاختلاف فهو يندرج تحت مقولة التعدد داخل الموقف الواحد. على أن الاختلاف بين القائلين بالنسخ يرقى في بعض الحالات إلى درجة الخلاف، وهذا مدار مقال اليوم.
ذلك أن القائلين بوجود النسخ في القرآن قد ذهبوا مذهباً قصياً في العمل به فوضعوا تصنيفات هي عبارة عن قوالب منطقية فارغة، ثم راحوا يبحثون لها عما يملؤها، الشيء الذي جعلهم يمعنون في التجزيء وينزلقون مع افتراضات لا فائدة من ورائها غير اصطناع أوضاع ونوازل أثقلت وتثقل كاهل الفقه الإسلامي.
من ذلك مثلاً تقسيمهم النسخ في القرآن إلى الأقسام التالية:
-فالقسم الأول، هو ما عبَّروا عنه بقولهم "ما نسخت تلاوته وحكمه معاً". وهذا ليس له من نتيجة إلا إثبات "الفراغ" في المصحف نصاً ومضموناً. وعبثاً حاول بعضهم تجنب هذه النتيجة! لقد انتهوا إلى القول إن هذا القسم الذي فيه المنسوخ غير متلوٍّ والناسخ أيضاً غير متلو ليس له نظير في القرآن.
- أما القسم الثاني من تصنيفهم للنسخ في القرآن فهو ما أطلقوا عليه "ما نسخ حكمه دون تلاوته"، وهو جل ما ينصرف إليه معنى النسخ عندهم لوجود آيات تقرره في نظرهم. وسنفحص هذه الدعوى لاحقاً. لنكتف الآن بالتنبيه إلى أن القول بوجود شيء من القرآن "نسخ حكمه دون تلاوته" قول يحمل تناقضاً لا حل له. إذ كيف يمكن أن يكون هناك قرآن للتلاوة فقط، وهو يحمل معنى مفهوماً واضحاً؟ نحن نقول: إن ما يمكن أن يقال عنه في القرآن "إنه للتلاوة فقط" هو الحروف المقطعة التي في أوائل بعض السور مثل "ن"، "ق"، "ص"، "يس، "طه"، "طس"، "طسم"، "كهيعص"، "الم"، "المص"، الر"، المر". أما ما عدا ذلك، وهو القرآن كله، فهو مُحكم لأنه يحمل معنى، سواء على مستوى الحقيقة أو على مستوى المجاز. أما مسألة هل يعمل به مطلقاً أم أن العمل به قد قيده القرآن في وقت لاحق أو أجله أو أوقفه لاعتبار من الاعتبارات، فهذا شيء آخر. وهو محل اجتهاد.
أما القسم الثالث، والذي عبروا عنه بقولهم "ما نسخت تلاوته دون حكمه"، فهو ليس من القرآن. أما استشهادهم بأقوال بعض الصحابة التي تشير إلى خلو المصحف من آيات قالوا إنها كانت من القرآن فقد سبق لنا أن أوضحنا فيه رأينا في مقالات سابقة. لقد بينَّا كيف أن ذلك لا يجوز اعتباره من القرآن. ذلك لأننا عندما نتحدث عن "القرآن"، فنحن نتحدث عن القرآن كما هو في المصحف منذ أن جُمع زمن عثمان. أما غير ذاك مما يتصل بمناسبات نزوله ومراحل جمعه فهي أمور تنتمي إلى التاريخ، إلى مجال التعريف بالقرآن، وليس إلى فهم نص القرآن.
ومن مبالغات القائلين بالنسخ تصنيفهم سور القرآن حسب "وجود" النسخ فيها أو عدم وجوده إلى الأصناف التالية:
- سور تضمنت الناسخ والمنسوخ وعدوها خمساً وعشرين هي: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال والتوبة وإبراهيم والنحل ومريم والأنبياء والحج والنور والفرقان والشعراء والأحزاب وسبأ والمؤمن والشورى والذاريات والطور والواقعة والمجادلة والمزمل والتكوير والعصر.
- وسور دخلها المنسوخ دون الناسخ، وهي عندهم أربعون: الأنعام والأعراف ويونس وهود والرعد والحجر والإسراء والكهف وطه والمؤمنون والنمل والقصص والعنكبوت والروم ولقمان والسجدة والملائكة والصافات وص والزمر والمصابيح والزخرف والدخان والجاثية والأحقاف وسورة محمد و"ق" والنجم والقمر والممتحنة و"ن" والمعارج والمدثر والقيامة والإنسان وعبس والطارق والغاشية والتين والكافرون.
- وسور اشتملت على الناسخ دون المنسوخ، وعدوها ستاً وهي: الفتح والحشر والمنافقون والتغابن والطلاق والأعلى.
- وسور خاليات من ناسخ ومنسوخ، وهي عندهم ثلاث وأربعون هي: الفاتحة ويوسف ويس والحجرات والرحمن والحديد والصف والجمعة والتحريم والملك والحاقة ونوح والجن والمرسلات والنبأ والنازعات والانفطار والمطففين والانشقاق والبروج والفجر والبلد والشمس والليل والضحى والشرح والقلم والقدر والانفكاك والزلزلة والعاديات والقارعة والتكاثر والهمزة والفيل وقريش والكافرون والكوثر والنصر والمسد والإخلاص والفلق والناس.
وفي مقابل هذا الغلو في توظيف مقولة النسخ حاول علماء مبرزون حصر النسخ في حدود. منهم الفقيه ابن الجوزي الذي ألف كتابا في النسخ سماه : "نواسخ القرآن" عرض فيه تلك التصانيف وعلق عليها بقوله: "قلت: واضح بأن التحقيق في الناسخ والمنسوخ يظهر أن هذا الحصر تخريف من الذين حصروه". ثم أخذ يستعرض الآيات التي ادُّعِي فيها النسخ وانتهى إلى حصر "المنسوخة" في آيات قليلة العدد والتمس للباقي تفسيراً باعتماد مقولة العام والخاص... الخ.
أما الشاطبي فهو وإن كان لا يضرب صفحاً عن مقولة "النسخ" كلياً فإنه يقلص مفعولها ومداها إلى مستوى "النادر" من الأشياء. وذلك لعدة اعتبارات يذكرها:
- منها "أن غالب ما ادعي فيه النسخ إذا تأمل وجدته متنازعاً فيه ومحتملاً، وقريباً من التأويل بالجمع بين الدليلين على وجه من كون الثاني بياناً لمجمل أو تخصيصاً لعموم أو تقييداً لمطلق وما أشبه ذلك من وجوه الجمع، مع البقاء على الأصل من الإحكام في الأول والثاني".
- ومنها "أن تحريم ما هو مباح بحكم الأصل ليس بنسخ عند الأصوليين كالخمر والربا فإن تحريمهما بعد ما كانا على حكم الأصل لا يعد نسخاً لحكم الإباحة الأصلية". ومن هذا القبيل أنهم "قد كانوا في الصلاة يكلم بعضهم بعضاً إلى أن نزل "وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ" (البقرة 238)، وأنهم كانوا يلتفتون في الصلاة إلى أن نزل "الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ" (المؤمنون 2). قالوا (يعني المفسرين والأصوليين) وهذا إنما نسخ أمراً كانوا عليه. وأكثر القرآن على ذلك. معنى هذا أنهم كانوا يفعلون ذلك بحكم الأصل من الإباحة، فهو مما لا يعد نسخاً، وهكذا كل ما أبطله الشرع من أحكام الجاهلية". ويضيف الشاطبي قائلاً: "فإذا اجتمعت هذه الأمور ونظرت إلى الأدلة من الكتاب والسُّنة لم يتخلص في يدك من منسوخها إلا ما هو نادر".
هذا من جهة، ومن جهة أخرى يقرر الشاطبي أن القواعد الكلية من الضروريات والحاجيات والتحسينيات لم يقع فيها نسخ، وإنما وقع النسخ في أمور جزئية بدليل الاستقراء، فإن كل ما يعود بالحفظ على الأمور الخمسة (النفس والعقل والنسل والمال والدين) ثابت. وإن فرض نسخ بعض جزئياتها فذلك لا يكون إلا بوجه آخر من الحفظ، وإن فرض النسخ في بعضها إلى غير بَدَل فأصل الحفظ باقٍ، إذ لا يلزم من رفع بعض أنواع الجنس رفع الجنس".
هذا وقد تتبع السيوطي ما قالوا عنه إنه منسوخ وهو أكثر من 500 آية، وانتهى إلى أن عدد المنسوخ هو 21 آية فقط. وجاء بعده، من المحدثين والمعاصرين، من راجع لائحة السيوطي، فبعضهم حصر النسخ في خمس آيات فقط، بينما أثبت آخرون أن تلك الآيات الخمس نفسها لا نسخ فيها.
على أن هذه الآراء التي تُقلص من عدد الناسخ والمنسوخ في القرآن إلى درجة "الصفر" تعترف -ضمنياً على الأقل- بوقوع أو إمكانية وقوع النسخ في القرآن. ذلك لأنها إنما تعتمد في ما تقرره على نوع من التأويل للآيات التي وضعها آخرون تحت طائلة النسخ. وواضح أن تأويل مضمون آية من الآيات على نحو يحررها من طائلة النسخ لا يغلق الباب أمام تأويلات أخرى تجعلها ناسخة أو منسوخة. إن حل مشكلة "النسخ" لا يكون نهائياً ما لم ينطلق من القرآن نفسه. فإذا نحن استطعنا إثبات ألا دليل في القرآن على وقوع النسخ في نصوصه، صار بإمكاننا حل المشكل من أساسه.
نحن ندرك أن هذا لن يكون سهلاً على الذين لا زاد لهم إلا الأفكار المتلقاة، ومع ذلك فأملنا أن لا يسارعوا إلى ارتكاب الأخطاء.